رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الخامس والتسعون 95 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الخامس والتسعون 95 بقلم ياسمين عادل |
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الخامس والتسعون 95 بقلم ياسمين عادل
هي علمتني كيف يكون الحُب، وأنا سأعلمها كيف يدوم."
_______________________________________
انقطع صوت الهاتف حينما كان "يزيد" منتظرًا رد منها على سؤالهِ، لاحظ ترددها في إخباره بادئ الأمر، وهذا جعل الريبة تسكن أفكارهِ التي اضطربت، فأعاد صياغة سؤالهِ شاعرًا بالغموض يحاوطها :
- نـغم!! مش بتردي ليه!؟ مين قاسم ده؟.
فـ حررت تنهيدة من جوفها وهي تجيبهُ بإستسلام :
- واحد من معارف بابا الله يرحمه، أتصلت بيه إمبارح بس مردش عليا، أكيد أتصل بيا لما شاف المكالمة.
ترك الهاتف جانبًا وسأل :
- وإنتي متصلة بيه ليه؟.
لم تُخفِ الأمر عنه، طالما إنه الآن أصبح ذا مكانة في حياتها، فـ توجّب عليها أن تصارحه بكل ما يحدث بمنتهى الوضوح :
- هو الوحيد اللي هيقدر يساعدني أواجه عمي.
تضرج وجههِ بـ حُمرة مفاجئة، وارتجف ذلك العرق النابض بالقرب من عينهِ اليسرى، حينما أرسلت نظراتهِ إشارات مُخيفة أرعبتها، تلك الكلمات التي كانت لها وقعًا عنيفًا عليه، وتبين ذلك في تعابيرهِ الممتعضة وهو يردف مستنكرًا :
- الوحـيد!!!.
ثم نهض واقفًا وهو يتابع :
- وإيه إن شاء الله اللي خلاه فريد من نوعه لدرجة إنه يكون الوحيد اللي قادر يساعد!؟.
لم ترفع بصرها نحوه، بل تحاشت تمامًا النظر إليه وهي تجيب ببعضٍ من الإرتباك :
-لإنهم بيعملوا ليه ألف حساب، هيعرف إزاي يبعدهم عني.
بكلتا يديه، كان يمسح على رأسه وشعرهِ بشئ من الإنفعال المكتوم، ونفخ بإنزعاج إنتابه قائلًا :
- أعتبري الموضوع خلص يانغم، أنا هتصرف معاهم.. مكنش في داعي تتصرفي من دماغك.
بدد الخوف ما بقى لديها من تماسك، وهبّت واقفة من جلستها وهي تعترض على ما قيل منذ لحظة واحدة :
- لأ، إنت مش هتتعامل معاهم خالص، أنا هخلص كل حاجه من غير ما حد يتأذي.
فلم يقوَ على كبح غضبهِ، وترك صوتهِ المرتفع ينفجر من بين شفتيهِ صائحًا :
- يـعني إيـه هـتتعامـلي إنتـي مش فاهم !.مين قالك أصـلًا إني هسيبك تتصرفي من دماغك؟.
فـ لم تدخر وسعها لتفسير مقصدها له، قبل أن :
- يزيد إنت متعرفش عمي كويس، ولا تعرف ولاده.
وفركت أصابع يديها التي تعرقت وهي تتابع بنبرة بدت مهزوزة :
- خصوصًا سعد.. أنا مش عايزة يكون بينكم أي مواجهة.
كان ملاحظًا لحالتها المذعورة، وهذا أجبره على أن يكون لينًا بعض الشئ معها، ليمتص بلطفهِ ما انتابها من مشاعر سلبية. دنى منها وهو يرنو إليها بنظرةٍ وديعة، وحلّ تشابك أصابعها بلطف وهو يقول بهدوء :
- إنتي مدية الموضوع أكبر من حجمه يانغم، اللي هما عايزينه أنا هعمله، وهنخلص الحوار كله من غير أي أذى لحد.
فتطرقت للتحدث عن الأمر الباطن في ذلك الأمر، والذي تسبب في تلك الحالة التي سيطرت عليها :
- مقدرش أعمل اللي هما عايزينه.
قطب جبينهِ بإستغراب، واستشعر تلميحها لأمر آخر لا يعلمه :
- هو إيه اللي هما عايزينه!!.
أجفلت عيناها مستشعرة الضعف المتمكن منها، واعترفت بذلك الأمر الذي يؤرقها أكثر من أي شئ آخر :
- الأرض، عمي كل همه دلوقتي الأرض.. مش هيرضى حتى إني أتجوز من برا العيلة طول ما الأرض دي معايا.
تفهم "يزيد" مخاوفها أخيرًا، وبات الأمر واضحًا أمام عينيه :
- ورثك من باباكي!.
زفر "يزيد" وهو يفكر في زاوية الأمر الأخرى، وأردف إنذاك بإقتراح قد يرضي الطرفين :
- طب ما تبيعي ليهم، خدي حقك ونفضها.
تشنجت وهي تسحب يدها من بين يديه بغتة، وأشعّت عيناها بإصرارٍ شديد وهي ترفض رفضًا قاطعًا :
- لأ، مش هبيع أرض بابا مهما حصل.
وابتعدت عنه خطوات للخلف وهي تتابع :
- عشان كده محدش هيقدر يساعدني غير أونكل قاسم.
سحبت مقبس إنفعالهِ بدون شعورٍ منها، ليصيح فيها من جديد :
- تاني هـتـقولـيلي أونـكل زفـت!!.. هو أنا كوباية ميا شفافة قدامك!.
أعتبر الأمر تقليلًا منها لشأنه، بينما كان همّها الأكبر ألا تورطهُ معهما في أمر لن ينتهي بهذه السهولة :
- إنت عارف كويس إن مش ده قـصدي.
وأشارت نحو المقعد لكي يجلس وتفسر له تفصيليًا :
- أقعد يايزيد، أنا هفهمك ليـه أونكل قاسم هو الوحيد اللي يقدر يقدملنا المساعدة دي.
*****************************************
كأن الدنيا كلها لا تسعه، بكل وِسعِها وإتساعها لا تكفيه. عاد مهزومًا ونيران الحزن تخيم على قلبهِ المتعمق في حزنهِ، بدا موشكًا على الإنهيار، إلا إنه يدّعي الثبات دائمًا. رفع بصره ليتفاجأ بها تركض نحوه، متجاهلة أي إعتبار آخر سوى رغبتها الجامحة في اللحاق به، فـ اتسعت عيناه عن آخرها بذهول وهو يُسرع خطاه منها هاتفًا بتحذير :
- براحـة ياملك!!.
تعلقت برقبتهِ، وألتصقت به إلتصاقًا شديدًا مجتذبة إياه بصدرها، وأردفت بصوتٍ ملتاع أرهقهُ الشوق :
- أنا كويسة متقلقش عليا، إنت وحشتني أوي يايونس.
شدد ذراعيهِ على ظهرها، هو بأشد الأحتياج لهذا الدفء الذي غمرتهُ به، تلك الموجة الرطبة التي ترتطم بسطح جلد ملتهب فـ تُهدئهُ وتخمد سخونتهِ الحارقة، وكأنها نسمة ربيع لطفت حرارة الصيف المتوهجة، فـ بات أكثر هدوءًا وإرتخاءًا. أطبق "يونس" عيناه شاعرًا بيداها التي تمسح على ظهرهِ بحنو بالغ، وترك أنفهِ تغوص في رائحتها لتُخلصهُ من كل هذا الثقل المنكب على ظهرهِ، وظل مكتفيًا بذلك الوضع لبضع دقائق، حتى استمع لصوتها الرقيق وهي تهمس بجوار أذنه :
- متقلقنيش عليك تاني، أنا منمتش طول الليل وأنا مستنياك ترجع من المزرعة.
قطب جبينهِ بإستغراب، وأبعد رأسه للخلف قليلًا ليتسائل :
- إنتي عرفتي منين؟.
فصارحته وتعابير الحزن تُرتسم على وجهها :
- نينة أتصلت بمهدي وحكالها كل حاجه.
وتسائلت بعد ذلك بنبرةٍ حزينة :
- مكنش في أمل فرحان يعيش؟.
وخزت قلبهِ من جديد بدون قصدٍ، لتُحيي أمام ناظريه ذلك المشهد مرة أخرى، فأطبق جفونه بقوة، ونفض رأسه كأنما يطرد ذلك المنظر المؤلم من أمام عينيه، واستطرد قائلًا :
- مكنش في، فدا ريحانة ومات هو.
سحب يداه من خلف ظهرها، بينما بقيت هي متمسكة به -كمن تتمسك بأملها في الحياة-، وفرك وجهه ليقول :
- مكنتش عايزها تخلص كده، بس خلاص اللي حصل حصل.
صرّ على أسنانه متذكرًا ذلك اللعين الذي تسبب في هذه النكبة :
- الجبان لعبها صح المرة دي، عملها وسافر برا البلد كلها عشان مقدرش أطوله.
أحتوت وجهه بين يديها، وبإبهاميِّها كانت تسير بلطفٍ على جلده قائلة :
- أنسى يايونس ، خلينا نبدأ من جديد من غير أي خوف أو قلق أرجوك، عشان خاطري متفكرش تدور عليه.
غرقت عيناه في فستقيتيها الساحرة، متذكرًا بالتتابع ما مرّ به من حوادثٍ كثيرة كاد يخسر فيها النصف الآخر من حياته، وهنا أحس بوجوب فعل ما قالته. الآن عليه أن يختار مستقبله معها، أن يدهس أي شئ قد يُعيق سعادتهم القادمة، سيكون الأمر صعبًا عليه نسيان ما قُدم له من إساءة؛ لكنه سيستحق في النهاية. بزغت فجأة إبتسامة متلألئة على محياه، جعلتها هي أيضًا تبتسم، وما أن انفرجت شفتيها بتلك العذوبة حتى تنشطت مشاعرهِ الراغبة فيها، فـ أطبقت شفتاه تُقبّل شفتيها قُبلةٍ عميقة مطولة، زرع فيها كل ما يحملهُ من إشتياقٍ فاض به فؤادهِ، وأصابعهِ الخبيرة تتلمس أسيل بشرتها الناعمة، ترك شفتيها اللاهثة للحظاتٍ كي يستمع لأنفاسها المتهدجة، فلم يتحمل فراقهم هنيهه، ليُجدد تذوقهما من جديد بشكلٍ أعمق، تاركًا خلفهِ كل ما عاناه الساعات الماضية، وكأنهُ رجلًا لم يحس أنثى سواها، هي فقط من جعلتهُ يعيش هذه المشاعر الحية، متفردة بكونها نصف روحه كما قال. انغرزت أصابعها في قميصهِ ترجوه ألا يبتعد، فـ لبّى رجائها بقُربٍ حميم عوضّ قلبها ليالي الحرمان والوجع، وسلبها كل ما عاشتهُ من أسى، ليتبدل معه كل شئ. هذه المشاعر لم تعشها من قبل، لكنها معه ستختبر كل ما هو جديد.
****************************************
توقفت سيارة "يزيد" في المكان المنشود، فـ نظر من حوله جيدًا يستكشف طبيعة المكان، ثم التفت برأسه يسألها بإهتمام :
- هنقابله هنا؟.
أومأت "نغم" برأسها وهي تجيب :
- آه.. إنت لسه مصمم تيجي معايا؟
رمقها من طرفهِ بنظرةٍ مستهجنة، ثم نزع عنه حزام الأمان وهو يقول :
- ردي عليكي إحتمال ميعجبكيش، أفضل أحتفظ بيه لنفسي عشان مش وقت خناق ومجادلات.. إنزلي.
ترجل كلا منهما من السيارة، وسارت "نغم" بالقرب منه أثناء دخول المطعم الملحق بالفندق العريق، بعدما أخبر أفراد الأمن بهوية الشخص الذين حضروا لأجله. نظرت "نغم" حولها بنظرات باحثة، حتى وقعت عيناها عليه، فأشارت حيث هو قائلة :
- أهو هناك.
نظر "يزيد" أينما تشير، فـ أحس وكأنه يعرف ذلك الشخص الذي يراه من جانبه، تلك الملامح مألوفة بالنسبة إليه، تنفض جبينه وهو يقترب منه حتى أصبح قبالته :
- مـساء الخـ......
تدلى فكهِ السُفلي وقد انقطع صوته، وأردف مذهولًا :
- إنت؟؟؟.
بدا "قاسم" هادئًا ثابتًا وكأنه لم يتفاجأ قط، وترك صبابة سيجارته في المنفضة وهو يردف :
- متخيلتش إننا هنتقابل تاني بالسرعة دي!.
وزعت "نغم" نظراتها المدهوشة على كلاهما، وتسائلت بإسترابة :
- إنت تعرف يزيد ياأونكل قاسم؟
أومأ "قاسم" برأسه مجيبًا :
- مش بالظبط، مجرد صدفة.
نهض "قاسم" عن جلسته ومدّ يده ليصافحه:
- أهلًا.
فـ صافحهُ "يزيد" بشئٍ من الرسمية قائلًا :
- أهلًا.
أشار إليهم كي يجلسن، ثم تسائل على الفور وبدون مقدمات :
- قولتي إنك محتاجة مساعدتي يانغم، خير؟.
ارتسمت إبتسامة متكلفة على ثغرها، وقالت بشئٍ من التردد :
- أنا في مشكلة، محدش غيرك هيقدر يحلها.
وكأنه استشف بسهولة سبب إلتجائها إليه، فـ خمن ذلك بقوله :
- بهجت عملك إيه؟!.
بُهت وجهها ما أن سألها حول عمها مباشرةً، وارتابت من أن يكون قد وصلهُ الأمر مسبقًا :
- حضرتك تعرف حاجه عن الموضوع؟.
فـ نفى ذلك على الفور وهو يبرر سبب تخمينه بلهجة جادة :
- خالص ، بس مفيش حاجه هتخليكي تجيلي غير لو فقدتي الأمل وفشلتي في كل محاولاتك.
أومأت برأسها عدة مرات، وفسرت بإيجاز :
- عندك حق، حضرتك آخر فرصة بالنسبالي.
استند "قاسم" بمرفقيه على الطاولة وقد شملهم بنظرة واحدة :
- قولي يانغم، سامعك.
أزدردت ريقها قبل أن تقدم على طلب ذلك منه، ثم حررت تنهيدة قصيرة من جوفها وهي تقول :
- كنت عايزه حضرتك تشتري الأرض بتاعتي...
تعليقات
إرسال تعليق