رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثالث والتسعون 93 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثالث والتسعون 93 بقلم ياسمين عادل |
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثالث والتسعون 93 بقلم ياسمين عادل
أجــل.. أُحــبُكِ."
_______________________________________
كوب الشاي الأخضر الساخن بين أصابعه، تتطاير منه أبخرة رمادية تتحرك بإتجاه الهواء، ويده الأخرى تسحب السيجارة الرفيعة من بين شفتيه، ليطرد دخانها الكثيف من صدرهِ ببطءٍ متروٍّ. ارتشف رشفة كبيرة من مشروبهِ الساخن، ثم نظر للجهاز اللوحي متابعًا أهم الرسائل الواردة على حسابهِ الإلكتروني. ترك سيجارته مشتعلة على طرف المنفضة، ورفع بصرهِ شاعرًا برائحة غير مرغوبة. لمح آثار أدخنة تتصاعد للسماء، نهض بتعجلٍ ودقق بصرهِ جيدًا، إنها نيران تلتهم أحد المزارع القريبة، مشهدها متجليًا من أعلى قصرهِ المرتفع. ذمّ شفتيهِ وهو يفكر فيما يراه، حتى تفاجأ بصياح زوجتهِ التي تنادي :
- قــاسم.
أهتزت يده الممسكة بالكوب، فـ تساقطت بعض قطرات مشروبه الساخن على يده، التفت إليها ليرى الذعر على وجهها وهي تقول :
- في حريق كبير أوي قريب مننا.
ترك "قاسم" كوب الشاي خاصته وهو يتحدث بهدوء :
- هروح أشوف في إيه!.
إنتفض قلب "حور" بفزعٍ مهلك، واستوقفته وهي تحول بينه وبين ترك (الروف) العلوي للقصر :
- لأ، ملــناش دعـوة.
عقد حاجبيه بإستهجان قائلًا :
- ملناش دعوة يعني إيه!! أفرضي في حد هناك وسط الحريق!.
إرتعبت من مجرد فكرة أن يكون أحدهم حرقًا، ومع استغراقها في أفكارها المذعورة، كان "قاسم" قد غادر منذ قليل. وما أن لاحظت حتى ركضت ركضًا سريعًا يقطع الأنفاس من خلفه، حتى بلغتهُ قبل أن يخرج، وتشددت في ضرورة إصطحابهِ لكي تكون مطمئنة أكثر :
- خلاص خدني معاك، نروح نطمن سوا.
مسح "قاسم" على شعرها بحركة لطيفة، كأنه يمتص بعضًا من قلقها المفرط والمبرر قائلًا :
- متخافيش ياحورية، هشوف الوضع وآجي فورًا، أكيد مش هتيجي معايا وسط الرجالة.
أصرّت بشدة على مرافقتهِ، متناسية أي إعتبارات أخرى سوى خوفها الزائد عليه :
- لأ مش هقدر أقعد هناك وأنا عارفه إنك هناك.
بدأت العصبية تتسلل لنفسهِ، ولم يطيق صبرًا أكثر من ذلك وقد إسترعى الأمر كامل إهتمامه، فـ امتعض وجههِ وهو يردف بحزمٍ متشدد وصارم :
- حــور، متعـصبنيـش !.
كادت تدافع عن فطرتها الخائفة عليه، لولا إنه تابع :
- قولت هشوف الوضع وأرجع، خلاص!.
ثم أشار للداخل مستكملًا :
- أدخلي جوا ومتخرجيش من الباب مهما كان السبب.
لم ينتظر لأكثر من هذا، وخرج لكي يلحق بذلك الحريق الناشب بالقرب من مزرعتهِ، علّه يستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
*****************************************
ارتدى معطفهِ بفتورٍ زائد، وضبط هندامه قبل أن يمسح مسحة على شعرهِ ليساويه بها. ضم المعطف لصدرهِ ووضع سجائرهِ بداخل الجيب، وقبل أن يخطو خطوة خارج الغرفة كان أخيهِ يستوقفه متوترًا قلقًا ،وهو يردف بعصبية مبررة :
- إنت طبيعي يايونس!! طب حاسس إيه اللي حصل وإحنا رايحين فين دلوقتي!؟.
كان هادئًا رزينًا، وكأن شيئًا لم يكن، وهذا ما أثار نزعة الإنفعال لدى "يزيد" أكثر :
- طالما مهدي بخير والرجالة سليمة خلاص، هنروح نشوف الوضع ونطمن من هناك.
هزهُ "يزيد" هزة عنيفة وكأنه بذلك يرغب في إعادتهِ لوعيهِ :
- لأ إنت مش في وعيك، الصدمة شكلها ضربت دماغك، ما هو مش طبيعي تكون بارد كده قدامي وانت عارف اللي حصل في المزرعة وفي خيل من بتوعك ماتوا!!.
دفعهُ "يونس" برفق دون عنف، وزجرهُ بنظرةٍ حامية وهو يقول :
- أنا كويس يا يزيد، ملك ونينة مش هيحسوا بأي حاجه من اللي حصلت، سمعتني!!
بُهت وجهه، وأُضيف شحوبًا على شحوبه، واستنكر تفكير أخيه المراعي لتلك الدرجة القصوى :
- هو ده اللي شاغلك!! ملك!.
فأضاف "يونس" ببعض الحزم :
- ونينة، يعني مرات أخوك وجدتك.. ماشي!
وأشار له كي يستبقه للخارج :
- أسبقني وأنا هحصلك عشان محدش يحس بحاجه، أساسًا ملك قلقت بما فيه الكفاية.
لم يعقب "يزيد" على ذلك، وإنما كتم إشتعال صدرهِ وتلك النيران بداخلهِ، وانسحب للخارج مستوفضًا لئلا يتواجه مع إحداهن الآن. لحظات وكان "يونس" يخطو للخارج، كي يودع حبيبتهِ قبل الذهاب، حتى لا ترتاب لغيابهِ المشكوك به، مراعيًا تشديدات الطبيب على ضرورة إبقاء صحتها النفسية متحسنة دائمًا، حتى وإن كان ذلك على حساب شخصهِ هـو.
*****************************************
كانت الطائرة تُحلق بين السُحب القطنية البيضاء، وهي تنظر من النافذة المستطيلة على وطنها الذي تهاجرهُ مع زوجها للأبد، لن تعود، ولن يكون هناك فرص للعودة - وإن كانت زائرة -. استدارت رأس "زُهدي" ينظر لها بضيق حاول أن يكظمهُ، وسألها بإسترابة :
- إنتي كويسة ياغالية؟!.
التفتت إليه باديًا عليها الشرود، وأجابت بسكونٍ لم يعتد عليه منها :
- كويسة.. كنت هبقى كويسة أكتر لو مكناش سيبنا مصر!.
شبك "زُهدي" أصابع يديهِ معًا، واجتهد ليمنع غضبه من الطفو على تصرفاته معها وهو يبرر :
- بعد كل اللي حصل كان لازم آخدك من هنا، إنتي بقيتي بتضري نفسك مش بتنتقمي غير منها.
عادت عيناها تمتلئ بنفس النظرات المحتقنة، وهي تردف بتشنج :
- لازم أخلص حق بنتي منه، وأحرق قلبه زي ما قلبي اتحرق.
لم يتحمل تزييفها أكثر، وطمس أوجه الحقيقة البينّة المعلومة له، فـ انفعل وهو يردف بـ :
- بـس بـقا، بقالي سنين مطاوعك على جنانك ده!.. بنتك ماتت بسببك إنتي، إنتي اللي سرقتيها من جوزها ومن حضنك.. خـلصت ياغاليـة.
برزت الضغينة الشديدة في صوتها وهي تدافع عن نفسها المُدانة :
- هو اللي أخدها مني، حرمني منها ومنعها من إنها حتى تجيلي.
- لأنك كنتي بتقسيها عليه ودايمًا كنتي موضع خلاف بينهم.
لم تكتفِ وتابعت بحنقٍ بالغ :
- لأني عمري ما اقتنعت بيه ولا حبيته، طول عمري رفضاه.
فضرب الحقيقة بوجهها بدون تجميلها :
- عشان كده حاولتي تخلصي منه عشان ترجع هانيا معاكي تاني، مش كده!!.. دي كانت أنـانيـة مريـضة منك، بنتك مكنتش هتفضل عايشة عمرها كله معاكي!.
وتابع بنبرة أكثر صرامة :
- الموضوع إنتهى، أنا طاوعتك للمرة الأخيرة وحرقنا مزرعته عشان وافقتي نسيب مصر للأبد.. هنسافر وهتتابعي مع الدكتور النفسي عشان علاجك يخلص، قبل ما عقلك يوصلك لقتلي أنا كمان.
شعرت بتأنيب الضمير على ما وصل إليه فكرهِ عنها بسبب ميولها الإنتقامية المتوحشة، فحاولت تصحيح تلك الفكرة قائلة :
- زُهدي إنت جوزي و.....
فقاطعها بضيقٍ جثم على صدرهِ وتجلّت تعابيره على وجهه :
- واللي راحت كانت بنتك، مش هكون أغلى منها.
أطلق زفيرًا مسموعًا وسحب شهيقًا طويلًا لصدره يستعيد بذلك هدوءهِ المفقود، ثم أردف بخفوت :
- أنا تواصلت مع المستشفى في سويسرا ونسقت معاهم خلاص، مجرد ما نوصل هنطلع على هناك.
ثم وضع كفهِ على يدها وهو يستكمل :
- إحنا أتأخرنا كتير على علاجك وده كلفنا أرواح.
أطبق جفونها تستعيد بعضًا مما حدث، تلك الخطة التي لم تكن مدبرة، لكنها كانت بـمحض الصدفة.
صُدفـة أضافت عُمـرًا لعمرها...
(عودة بالوقت للسابق)
بعدما أيقنت بموتها لا محالة، ابتلعت كوب الماء الذي قطرت فيه من السُم القاتل، ونظرت حولها للدنيا التي ستتركها بعد لحظات، ستلحق بـ ابنتها التي أحبتها كما لم تحب أحد؛ ولكن للحظة، شعرت بإنها ليست هينّة على نفسها لهذه الدرجة، أحست ببوادر إنتشار السُم في بدنها گسير الماء في مجراها، فـ تشنج جسمها كله، وأسرعت نحو المبرد الصغير، أخرجت زجاجة دواء مُضاد، وتجرعت منه جرعة كبيرة، ثم تجرعت عبوة حليب كاملة راغبة بذلك إفساد مفعول السُم، الذي بدأ يتمكن من أعضائها الحيوية. وقعت على الأرض غير قادرة على التحكم في نفسها، وزحفت حتى بلغت فراشها، كتمت آهه موجوعة، وهي تحس أحشائها تتمزق من فرط الألم، صعدت الفراش وبدأت ترسل رسالة نصية إلى زوجها، تستنجد به ليلحق بها، إذا نجحت في خداعهم بموتها المزعوم...
(عودة للوقت الحالي)
تنهدت "غالية" وهي تطبق جفونها قائلة :
- مكنتش عايزة بِشر يفهم إني مت، ليه أصريت منقولش يازُهدي!!.
أخرج "زُهدي" سماعة الرأس الضخمة من حقيبتهِ استعدادًا لسماع الموسيقى، وأجاب حينئذٍ :
- البدايات النضيفة مينفعش ناخد فيها حد كان عارف حقيقتنا الزبالة ياغالية، بِشر كان مخلصلك وأنا عوضته قبل نسافر، متقلقيش عليه.
نظر صوبها نظرة متعمقة، وتذكر كيف كان سيخسرها للأبد، كيف وجدها ساكنة گالموتى، شاحبة گمن سُلبت الحياة من أسفل أقدامه، حتى مع سكون نبضها وإيحاء ذلك بموتها الفعلي لم يصدق، لم يقتنع إنها ستغادر بهذه السهولة، وأوفض يلحق بها لأقرب مشفى كي يتم إسعافها، وبعدما تم غسيل معدتها بالكامل. ظلت نائمة لأيام، فاقدة وعيها بالكامل، مربوطة بأجهزة إنعاش القلب لتبقى حيّة، إلى أن عادت، حينها كانت الخطة لخروجها من البلاد بأسم مستعار وجواز سفر مزيف قد تجهزت، إستعدادًا للمغادرة النهائية.
أجفل "زُهدي" آملًا أن لا يكون الأمل من شفائها قد انقطع، وهتف بصوتٍ يائس :
- ياريت تقدري تنسي كل ده لما نوصل ونبدأ من الأول.
مدّ لها يده بالسماعة خاصته :
- تسمعي؟؟
فتتاولتها منه بصمتٍ دون نطق، ووضعتها على آذانها كي تستمع إلى ما سيختاره لها، أثناء تفكيرها فيما هي مقبلة عليه، بعدما أجبرها "زُهدي" على ترك كل ذلك الحقد خلفها والذهاب بعيدًا، كما إنه أزمع على ضرورة تلقيها جلسات العلاج النفسي بعدما تدهورت حالتها مؤخرًا، فأصبحت على شفى حفرة من الجنون - إن لم تكن قد وصلت إليه -، سيقتلعها من هنا لأجلها وأجل الأبرياء الذين أهدرت حياتهم في سبيل ثأر مزعوم، ثأر أبتدعتهُ بعقلها، بينما في الأساس هي الآثـمة الوحيدة.
**************************************
كل مكان محترق، ولا سيما أسطبل الخيول متفحم بالكامل، والقصر من الداخل قد طالهُ الكثير من آثار تلك الحروق. نظر "يونس" بعينان تقدحان بالغضب، لكنه ساكنًا خامدًا بدون رد فعل. تحرك للخارج لتقع أبصارهِ على "ريحانة" التي نجت من الحريق، وبعض الخيول الأخرى، عدا فرحان الذي لقى حتفهِ، بعد مجهوداتهِ المضنية والمضحية لإنقاذ بني جنسهِ من الخيول. أطرق رأسهِ مواريًا أحزانهِ، فـ دنى منه "مهدي" متعرجًا، وهتف بصوتٍ آسف :
- سامحني يابني ، مقدرتش أحافظ على الأمانة.
ربت "يونس" على كتفهِ ليرفع عنه الذنب :
- إنت ملكش ذنب يامهدي، الحمد لله إنك بخير إنت والناس اللي كانت على البوابة.
وتنهد مستثقلًا ما يقوله :
- فرحان أنقذ ريحانة ومات هو؟!.
لمعت عينا "مهدي" بحزنٍ بالغ وهو يجيب :
- آه، هو اللي كسر البوابة بتاعتها عشان يخرجها.
فرك وجهه غير قادر على تجاوز الصدمة، ونظر حوله من جديد وهو يسأل :
- مين اللي ساعدكم يامهدي!!
التفت "مهدي" يسارًا، وأشار إلى أقصى مرمى البصر، نحو ذلك الرجل المهيب الذي كان يقف بين رجالهِ بشموخٍ مثير ، تنغض جبينهِ بفضول شديد وهو يسأل :
- مين ده!
- ده صاحب المزرعة اللي قريبة مننا، هو اللي شاف الحريق من بعيد وهو اللي نجانا أنا واللي معايا، وهو برضو اللي خلاني أكلمك، لولاه كان زمانا أموات يايونس.
نظر "يونس" حيالهِ بإعجابٍ ممتن، وتأهب للقاءهِ كي يقدم جزيل الشكر :
- لازم نشكره بشكل خاص، وبعدين نفكر في مصيبتنا واللي هنعمله فيـها...
تعليقات
إرسال تعليق