رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثامن والثمنون 88 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثامن والثمنون 88 بقلم ياسمين عادل |
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الثامن والثمنون 88 بقلم ياسمين عادل
وإنّي أليِنُ لكِ، وأنا الصلب الذي لا يَلـين."
________________________________________
تعابير وجهه الضحوكة، والتي قرأت من بينها محاولته المستميتة لإستثارتها، كل ذلك لم يفلح في حلّ جمودها، حتى اصطدمت قطرة ماء بصفحة وجهها، فـ ارتجفت جفونها وعادت لأرض الواقع توًا، وصدرت شهقة مرتفعة من جوفها وهي تتراجع للخلف، وبدأت مداركها تستوعب ما حطّ عليها من مفاجأة جسيمة. عادت تنظر لأعلى، لترى منشفة عريضة تم وضعها على المنشر، تتدلّى منها قطرات المياة، فـ زجرتهُ بنظرةٍ حامية، وهي تردف بإستهجان :
- إنت بتعمل إيـه عندك!؟.
انفرجت شفتيه بإبتسامة عريضة، وهو يجيب ببراءة مصطنعة :
- المواسير ضربت في شقتي، فـ جيت هنا كام يوم، أهو تغيير برضو.
ذمّت على شفتيها بغيظ، غير مصدقة حجتهِ الكاذبة :
- على أساس إن هنا المصيف بتاعك!.
ضحك متجاوزًا سخريتها وهتف بـ :
- سيبك من الكلام ده، قوليلي عندك إيه يتاكل أحسن هموت من الجوع.
اتسعت عيناها بذهول من أريحيتهِ المفرطة، واستنكرت ما يقوم به من أفعالٍ لم تليق أبدًا بشخصيتهِ التي اعتادت عليها :
- مفيش أكل، روح أطلب دليڤري.
فـ غمز لها مداعبًا إياها :
- مفيش عندهم مكرونة بالبشاميل.
صرّت على أسنانها وهي تترك الشرفة وتلج للداخل، وقفت خلف الزجاج بعقلٍ مرتبك، وفركت أصابعها بتوترٍ من هول المفاجأة وهي تغمغم بهمسٍ :
- إزاي ده!! يعني إيه؟ إحنا كده بقينـا جيران!
بحثت بعيناها يمينًا ويسارًا، حتى وقع بصرها على هاتفها الموضوع أعلى المنضدة الصغيرة، فتناولتهِ وبدأت تتواصل مع رفيقتها الوحيدة، وهي تتجول في المحيط من حولها :
- أيوة ياملك، ألحـقينـي.. أنا ويزيد بقينـا جـيران ياملك.
*****************************************
دعس "يونس" سيجارتهِ في المنفضة قبل أن يجلس على مقعد المكتب، وزفر قائلًا بعصبية مقننة :
- يعني إيه يا يزيد تأجر الشقة اللي فوقيها!! ده لعب عيال ده ولا إيه؟.
طرق بالقلم على سطح المكتب، وهو يستمع لتبريرات "يزيد" ورغبتهِ المتوحشة في حمايتها مما حُشرت فيه، لم يقتنع كثيرًا بما قيل له، وتسائل بخبثٍ مرتاب :
- إشمعنا دلوقتي محموء أوي كده على الموضوع، ما قولتلك من الأول لازم نشوف حل ودي بينا وبينهم وانت كنت رافض!.
صمت هنيهه يستمع إليه و :
- عمومًا دي مش الطريقة اللي هينفع تصلح بيها غلطتك، نغم مش هتنسى كلامك مهما حصل، أحسن لك تصارحها بالحقيقة.
منع "يونس" نفسه من الضحك بصعوبة، وعاد يتابع حديثه :
- والله معرفش إيه هي الحقيقة، فكر انت كده ولو عرفت عرفني.. أنا هقفل معاك عشان أصحي ملك تفطر وتاخد علاجها.. سلام.
أغلق "يونس" الهاتف بعد مكالمتهم القصيرة، فـ غطّى العبوس وجه "يزيد" وهو ينظر لشاشة الهاتف، ونفخ متذمرًا وهو يردف :
- فاضي أنا بقى عشان أحل ألغاز!.
نظر "يزيد" للوسط الفوضوي من حوله، حقيبتهِ وبعض قطع الأثاث الأساسية التي جلبتها متجر الأثاث صباح اليوم، كي يتأقلم مُجبرًا على ذلك الوضع، لحين إسترداد "نغم" من جديد، أو التخلص من عبء عائلتها التي ترسخ في عقولهم فكرة الخلاص منها. نظر بدون اشتهاء للطعام الذي أرسل في طلبه، وبدأ عقلهِ يدبر ما هي الخطوات التالية التي عليه اتخاذها، إذ إنها لن تكون يسيرة عليه تلك المرة، وكأنها ستأخذ بثأر كل ما مضى عليها معه.
****************************************
دوّنت "نغم" بتعجلٍ تفاصيل ما قالتهُ المختصة بتنظيم مواعيد المقابلات الشخصية، ثم أمسكت بهاتفها وهي تردد بإمتنان :
- شكرًا جدًا لحضرتك، هكون هناك بعد ساعة من دلوقتي.
أغلقت المكالمة ونهضت إلى غرفتها، بحثت عن قميصها الأبيض بنظراتٍ تائهة، حتى تذكرت إنها قد وضعته على المنشر بالأمس. فـ أوفضت نحو الشرفة كي تتناوله وترتديه، استعدادًا لأولى مقابلاتها لطلب وظيفة. كانت قد تحمست بعدما وجدت ضالتها، أخيرًا وظيفة تحمل نفس المميزات التي اعتادت عليها مسبقًا، لم يبقَ سوى إنهاء المقابلة الشخصية مع المسؤول المختص، ثم استلام مهامها بجدٍّ ونشاط. بسطت يدها نحو القميص، فـ اصطدمت به لم يجف، بل إنه غارقًا بالمياة وكأنهُ موضوع للتو. ارتفعت عيناها للأعلى بتلقائية شديدة، وقد امتلأت نظراتها بالحقد والغيظ، ثم دلفت بعجلٍ مغمغمة :
- من أولها كده!! طـيب مـاشي.
وضعت إسدال الصلاة على جسدها، وسحبت مفاتيح شُقتها لتصعد إليه. ضربت على الباب بعنفٍ حتى فتح لها "يزيد" وهو يرتدي سترتهِ، ابتسم بسماجةٍ أشعلت النيران في عيناها، خاصة حينما ردد :
- صباح الخير.
فـ زجرتهُ بنظرةٍ محتقنة، وأجابت بنفورٍ لم يعتدهُ :
- صباح الزفت، إيـه اللي هببتهُ ده!!.
تماثل وكأنه لم يفعل شيئًا، وجاء صوتهِ إنذاك رخيمًا هادئًا :
- هببت إيه ؟
- غرقـت الشـيميـز بتاعي اللي كنت هنزل بيه، أعمل أنا إيه دلوقتي!.
فـ أفتر ثغرهِ بإبتسامةٍ خبيثة، مجيبًا إياها بعبثٍ متعمد :
- بسيطة، متنزليش.
أشارت بسبابتها محذرة إياه من تماديه في أفعاله، بينما عيناها الرقيقة لم تكن تحمل سوى كل معاني الإشتياق المدفون بصدرها له :
- أبـعد عني يا يزيد، أنا مش عايزة أي احتكاك منك، كفاية أوي اللي حصل لحد كده.. أنا اكـتفـيت.
كانت كلمة صادقة، هي اكتفت من كل ما حدث، أرادت وبشدة أن يداويها، أن يضع مخدر على آلامها الحيّة، حتى وإن أظهرت عكس ذلك. ذاك الضعف -الذي تبغضهُ- فيها گالمرض الملتصق بصاحبهِ، يستطيع رؤيتهِ بازغًا في عنان عيناها، يترنح واهنًا، يكاد يسقط گزخّات المطر. لم يحيد بمركز بصرهِ عنها؛ ولكن اللين قد أخذ مجراه إليه، وبدأ ذلك الصلب يرخو رويدًا رويدًا، ليقول بصوتٍ رزين :
- أنا هصلح كل حاجه يانغم، محتاج منك فرصة أقدر أتصرف.. ممكن؟.
أفترت ثغرها بإبتسامة مستخفة، وكأن صوتها يحمل مرارةٍ خفيّة وهي تقول :
- مش عايزاك تتصرف، أنا هقدر أدبر أموري ، قولتلك مش محتاجة شفقتك.
زفر بصوتٍ مسموع من تكرار تلك الكلمة على لسانها، ونفى وجود شعورٍ كذلك بداخله :
- أنا مش بـشفق عليكي.
زاحم صوتها صوتهِ وهي تصيح بـ :
- أمـال إيـه يا يزيد؟؟ لو مش شفقة تبقى إيه؟.
لم توليه فرصة الرد، وكانت أسرع منه في إنهاء الموقف على تلك الوضعية المتأزمة :
- إنت نفسك متعرفش ده إسمه إيه مش كده؟؟.
تأهبت لتغادر الطابق المتواجد فيه، وهي تختم حديثها :
- لما تعرف إبقى قولي، سـلام.
كادت قدمها تنزلق عبر الدرجة المكسورة، فـ انتفض قلبه وهو يخرج من شُقته صائحًا :
- حـاسبي!.
تمالكت نفسها لئلا تسقط على الدرج، وتحاملت على ساقها التي لم ترتتق كليًا، ثم تابعت نزولها برويِّة. راقبها حتى استمع لصوت إغلاق بابها، فـ تراجع للخلف نحو بابه، وغمغم بإصرار :
- برضو مش هتتقبلي في أي شغل جديد يانغم، حتى لو اضطريت أحط على بابك أقفال.
وصفق الباب خلفهِ بصوتٍ مدوي.
***************************************
إنتهى "بِشر" من سقاية زرع الصبار الأخضر، الموضوع أعلى قبر "غـالية"، ثم ترك زجاجة المياة الفارغة جانبًا، وانتقل بصرهِ إلى "زُهدي". كان متعمقًا بأنظارهِ على قبرها، وكأن الحزن إنسان تجسد على سفح وجههِ الممتعض، يرنو إليه بمزيجٍ من الغضب والوجع. الغضب منها؛ والوجع لسفرها إلى رحلتها الأخيرة بذلك الشكل المريب، لم يتوقع قط أن تقوم إمرأة مثيلتها بالخنوع للإنتحار، بدلًا من أن تتواجه مع عدوها اللدود، الذي لم يفعل سوى حب ابنتهـا، وكأن في ذلك جُرم مشهود. أطبق "زُهدي" على جفنيهِ المرهقين ، ثم تسائل بحزمٍ رافق نبرته :
- عملت إيه يابِشر، عرفت حاجه؟.
- لسه ياباشا.
التفت "زُهدي" مغادرًا المقابر، بعدما أطبقت على روحهِ إطباقًا مخيفًا :
- لازم تلاقي أراضيه فين يابِشر، مش هفضل صابر كتير.
ضرب "زُهدي" كفيهِ سويًا، فـ انكسرت نظارتهِ الشمسية وهو يزأر بـ :
- هفعصهُ تحت رجلي لو شوفت وشه، بس أشوفه!!...
تعليقات
إرسال تعليق