رواية دمية مطرزة بالحب الفصل السادس والثمنون 86 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل السادس والثمنون 86 بقلم ياسمين عادل |
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل السادس والثمنون 86 بقلم ياسمين عادل
"أنتِ بداية، لقصة كُتبت قبل آلاف السـنين."
_______________________________________
عيناه مرابطة بتبلد على ذلك الوضع الذي قهرهُ، تسرب هاجس موتها من بين شرايين دماغهِ، گالألم الذي يتسلل للبدن رويدًا رويدًا. كانت نائمة بشموخ معتزّ في فراشها، بشكلٍ يوقن للناظر إنها ميتة لا محالة. شحوب بشرتها وتلك الزُرقة التي كست شفتيها وكأنها تجمدت، كل ذلك كان إشارة، على إنها اختارت الطريق الأيسر حفظًا لكرامتها -المهدرة مقدمًا-، ولكي لا تعطيه فرصة الظفر عليها والتشفي بقتلها أو إيذائها. قطعت تذكرتها للرحلة الأخيرة بيدها، بتلك الطريقة السهلة التي لم تكلفها سوى عناء الوجع، الذي نهش في أحشائها المسمومة بلا هوادة. خطى "يونس" خطوتين مقتربًا منها، تسلطت عيناه المتقدة عليها، حتى في موتها كان اختيارها للنصر أولوية لديها، لتفوت عليه سعادتهِ بإنهائها، ستموت؛ ولكن بيدها هي. لمح "يونس" كأس المياه الفارغ بيدها على الفراش، وقنينة السم القاتل شبه فارغة على الكومود، فـ أُضرِمَت نيرانهِ أكثر، بشكلٍ يصعب السيطرة عليه. مد أصابعهِ ليتحسس نبضها، فـ إذ به مختفي تمامًا، لا وجود له، أنفاسها مقطوعة نهائيًا، وبقيت جثة هامدة على فراشها. التفت "يونس" ينظر بعينان مشتعلتان إلى "سيد" -الذي لم يقل ذهولهِ عنه-، وسألهُ بإنفعالٍ سيطر على كافة حواسهِ :
- هـي دي الأمـانة اللي كنت هتسلمهاني ؟؟.
وتابع بإستنكار :
- هتسلمني جـثة يا سـيد؟.
لم يأبه "سيد" بتعنيف "يونس" له، وإنما شغل عقله تلك السيدة المعتوهه التي فضّلت الموت عن مواجهة "يونس". ارتكزت عيناه عليها محدقًا بإستغراب، وغمغم مذهولًا :
- المجنونة قتلت نفسها قبل ماانت تقتلها! دي ست ××××××.
زجرهُ "يونس" مشتطًا، واهتاجت أعصابهِ أكثر وهو يقول :
- أنا بكلم مـين!!. إزاي ده يـحصل وإنت ورجالتـك هنا ياسـيد؟.
فـ شرح له "سيد" الوضع كاملًا كما حدث...
*عودة بالوقت للسابق*
إرتعبت "غالية" فور شعورها بـ مداهمة منزلها، خاصة عندما نظرت عبر النافذة، فوجدت إنها محاصرة كليًا من أولئك الرجال الإغراب، والتي كانت هيئتهم مريبة مرعبة بالنسبة لها. لم يتمكن عقلها من التفكير السليم في تلك اللحظة، حتى إنها حاولت بسذاجة مفرطة أن تفرّ مما وقعت به؛ لكنها تفاجئت بـ "سيد" أمامها حائلًا، يمنعها من العبور لخارج الغرفة. بزغت نظرات الشر المستطر في عينيه، وهو يتجول بنظرة شاملة عليها قائلًا :
- في ضيف جاي يسلم عليكي كمان شوية، وأنا هنا عشان أخلي بالي منك لحد ما يشرفنا.
حدجته بنظرة مغتاظة، وراحت ترمي نظرات باحثة للخارج :
- إنت مين وإزاي دخلت بيتي؟؟ ياِبـشر؟؟؟
ضحك "سيد" قبل أن يلفت انتباهها قائلًا :
- بِشر مش فاضي ياست، قاعد ما الرجاله تحت.. لامؤاخذه.
ودفعها للداخل دفعة عنيفة متابعًا :
- مضطر أخليكي جوا.. لحد ما الباشا ييجي ويقرر بنفسه هيعمل معاكي إيه ؟؟
وقبل أن يغلق الباب عليها، كانت تصرخ متسائلة :
- باشـا مـين اللي جـاي؟.
اتسعت ابتسامته العريضة، وهو يجيب متفاخرًا :
- يـونس باشـا، هو انتي سودتي عيشة حد غيره ولا إيه!؟.
فعرضت عليه "غالية" عرضًا مغريًا :
- عايز كام وتخليني أمشي قبل ما ييجي؟!.
إلتمعت عيناه ببريقٍ طامع، ورغم ذلك ظل محافظًا على عهده معه :
- كان بودّي نتفق مع بعض ياحلوة، بس للأسف أنا مخلص لكلام الرجالة.
وأشار نحو عنقه وهو يتابع :
- لو على رقبتي.
وأشار لأحدهم، فـ أجبرها على الدخول عنوة، وأوصد الباب عليها جيدًا، حينما ألقى عليه "سيد" الأمر :
- أنا هخلي حد يقف تحت الشباك كمان، عشان متفكرش تلعب معانا كده ولا كده.
*عودة للوقت الحالي*
لم يتحمل "يونس" حقيقة گتلك، أحس وكأن الدماء الملتهبة ستنفجر من رأسهِ من فرط الغيظ. التفتت عيناه ترمقها بحقدٍ شديد وهو يصيح بجنون :
- يعني نفدت من إيدي، ملحقتش أنتقم منها بعد كل اللي عـملـته!.
اجتهد "سيد" لكي يُريه القسم الجيد في الأمر، وقال بدورهِ :
- فكر فيها صح ياأبو البشوات، أهي غارت في داهيه من غير ما توسخ إيدك بدمها النجس وارتحت منها.
تعبأ صدرهِ بالضيق، ومازالت قضية زوجته المتوفاه تترنح أمام عينيه :
- وحق هانيـا!؟.. واللي عملته فيا وفـ مـلك.. مين هيدفع تمنه!.
تقدم "سيد" من جثمانها، ألقى عليه الغطاء ليواريها عن أنظارهم، وقال إنذاك :
- عند ربنا بقى ياباشـا.
ثم عاد صوب "يونس" :
- أمشي من هنا ياباشا، شوف طريقك بقا.
كأنه يعطيه بادرة أملٍ، ليترك خلف ظهره كل ما حدث وانتهى في طرفة عين؛ لكن الشر الكامن في أغواره، والذي كافح لسنواتٍ كي لا يُظهره، تغلب عليه قليلًا، فلم يعد موتها يُشكل فارقًا لديه، ما دامت قد لقت حتفها بغير يدهِ هو، فلا طعم لذلك ولا شعور بالظفر. الحسنة الوحيدة بذلك، إنه سيركض لـ "ملك"، سيرتمي في أحضانها بدون ذرة من الندم، بدون أن يخذل توقعاتها فيه، وبدون أن يشعر بتلوث يدهِ لوهلةٍ. سينسى عهدًا، ليسطر بخطّ يدهِ سطورًا جديدة لها ومعها، من أجل حياة طال حلمهِ بها، وقد آن آوان عيِشها.
****************************************
رفضت تناول الطعام، وأضربت عن تعاطي أدويتها بإنتظام گعادة كل يوم، حتى إنها تحاملت على نفسها متقبلة شعور الألم، معبرة بذلك عن حالة الإعتراض الشديد عما تعيشه. تركت "ملك" هاتفها شاعرة بالقنوط، وبقيت عيناها الحزينة على باب غرفتها، منذ الأمس لم تراه، لم يأتي لإسترضائها، أو التحدث معها حول الأمر المعقد بينهما -كمل يفعل دائمًا-، وهذا ترك وخزة في صدرها كلما فكرت بالأمر تأذت أكثر. طرقات خافتة على الباب، أيقنت أن الممرضة ستظهر من خلفهِ، فـ اندثرت بالغطاء وأطبقت جفونها غير راغبة في مواجهة أي أحد. انفتح الباب للحظات وانغلق مرة أخرى، لم تستمع لأي شئ بعدها، فـ فتحت جفونها لتُصدم بـ "يونس" قبالتها مباشرة، حاملًا الطعام بين يديه، والبسمة الوديعة تعتلي محياه، وعيناه تفيض بكمٍّ هائل من الإشتياق لها :
- وحـشتيني على فكرة.
أرادت وبشدة أن تُبادلهُ أشواقهِ الحارة، أن تعترف بجنونها في غيابهِ گأنه إدمانها، بدونهِ تتشكل الوذمات في روحها، گمريضٍ حالتهِ متعسّرة، وغير قابل لأي طرق العلاج. أسبلت جفونها وهي تجبر نفسها بصعوبة، لئلا تسمح لذلك الضعف اللعين بالسيطرة عليها من جديد؛ ولكن لمسة أصابعهِ الخشنة على خدّها الناعم قشعر بدنها، وهو يرفع بصرها نحوهِ قائلًا بـ لين :
- كل حاجه اتحلت، من النهاردة مش هتضطري تخافي عليا تاني.
تشكلت إمارات الإستفهام على وجهها، فلم ينتظر سؤالها وأجاب فورًا :
- غالية انتحـرت، خلصتني من ذنبها وهي فاكرة إنها اللي انتصرت عليا.
انبعجت شفتاها بإبتسامة متفائلة، وأخيرًا سمع صوتها الذي حرمتهُ إياه :
- بـجد؟؟ يعني خلاص كده؟.
أومأ بالإيجاب، ثم جلس بالقرب الشديد منها قائلًا :
- خلاص، دلوقتي نفكر في مستقبلنا وإحنا مرتاحين.
تشككت في الأمر، وارتابت من إنه قد يكون متورطًا بالأمر، فـ تجهم وجهها، وتسائلت بتوجسٍ :
- إنت معملتش حاجه يايونس، مش كده ؟؟.
فـ نفى تلك التهمة عن نفسه بثقة وإرتياح شديدين :
- خالص والله.. صحيح أنا كنت ناوي، بس معملتش أي حاجه.. هي أنهت نفسها بنفسها ومسابتش فرصة آخد حقي منها.
فـ تنفست بإرتياح وهي تصيح بحماسة مفرطة :
- أحـسن بـرضو.
نظر "يونس" حيال الطعام ببعضٍ من العبوس وهو يردف :
- من إمبارح ولا كلتي ولا أخدتي علاجك!.
كأنه ذكرها بحالة الإضراب التي اعتنقتها منذ الأمس، فـ قطبت جبينها من جديد، وهي تذكره بما فعلهُ في حق نفسه :
- شكلك نسيت اللي حصل!.
بدأ يملأ الملعقة بالحساء، وهي يبتسم تلك البسمة الساحرة وهو يقول بلغتهِ :
- تــؤ، مش ناسي.. بس انتي هتنسي.
وضع الملعقة في فمها بطواعية كاملة منها، ثم تابع بزهوٍ سعيد :
- لما تعرفي اللي بحضره ليكي عمرك ما هتفتكري غير إنك تكوني مبسوطة بس.
تحفزت بشدة لمعرفة ما الذي يعدّه لها، وغمرت تعابير الفضول تقاسيم وجهها وهي تسأل متلهفة :
- إيه يايونس، قول عشان خاطري.
رفض الإعتراف فورًا، راغبًا رفع حماستها أكثر :
- مينفعش ياملاك، كل حاجه في وقتها.
دنى بوجهه منها، فـ استطاع الغوص في عيناها الفستقية الجميلة، وختخت بهمسٍ تخلل نفسها :
- اللي فات حاجه، واللي جاي حاجه تانية خالص.. وعـد.
شقّت شفتيه طريقها القصير نحو شفتيها، وقبل أن يشبع رغبتها الشغوفة في قُبلة واحدة من شفاهها، تماسك ليطبعها بالقرب منها، تاركًا حرارة أنفاسهِ تسير على بشرتها، قبل أن يهمس :
- المرة دي بس مش هعملها، لكن المرة الجاية مش هـسيبك أبـدًا.
تضرج وجهها بـ حُمرة مستحية، وهي تبتعد بعيناها عنه هامسة بخجل :
- يـونس!.
فكان صوته القريب وأنفاسهِ الملامسة لوجهها عامل رفع من حرارة جسدها :
- ياقلب يونس.
ضحكت غير قادرة على مقاومته، وأردفت بنعومة :
- خلاص بقا، إنت اتغيرت خالص عن الاول.
نفخ في وجهها لتطير تلك الخصلة عن جبينها، ثم رمقها بعبثٍ قائلًا :
- أعمل إيه، إنتي السبب في ظهور ميولي للإنحراف.
تداخل رنين هاتفه مع صوت ضحكتها لتقول بمزاحٍ :
- طب رد يامنحرف.
أخرج هاتفهِ وعيناه عالقة بها، ثم نظر للهاتف قبل أن يردد :
- هشوف عيسى وأجيلك تاني، خليكي فاكرة إحنا وقفنا فين، هه.
وغمز لها قبل أن يخرج من الغرفة، فـ غطت وجهها -الباعث للسخونة- بكفيّها، وغمغمت بـ تخوفٍ :
- يارب كفاية كده، يارب المرة دي تصيب.
خرج "يونس" ليجد "عيسى" يقبل عليه، فسأله مبتهجًا :
- عملت إيه ؟
- هانت، كلها يومين.
ذمّ "يونس" شفتيه بتحير، وسأله للمرة الأخيرة :
- متأكد من اللي هتعمله ده ياعيسى؟؟.
صمت "عيسى" لهنيهه، قبل أن يهتف بإصرار:
- آه ياباشا، مفيش حل تاني.
- اللي تشوفه مناسب ليك أعمله.
تجاهل "عيسى" التحدث حول الأمر، وافتتح الحديث عن أمر آخر أهم :
- على فكرة موضوع ملك هانم قرب يخلص، يعني السنة الدراسية الجديدة هتكون في جامعتها إن شاء الله.
تنفس "يونس" بإرتياح، بعدما أنهى أولى وعودهِ لها، بحياة أخرى تخلو من كل ما قاستهُ، وردد قائلًا :
- الحمد لله، ملك كان لازم تكمل حلمها، والجامعة دي أول خطوة ليها.
ابتسم "عيسى" وهو يفحص بعينيه حالة ربّ عمله التي وصلت لجذوتها، وأعلن إعجابه بذلك :
- مكنتش متخيل إني ممكن أشوفك بتحب حد كده، بعد ما المرحومة توفت وقفلت على نفسك.
- أنا نفسي مستغرب نفسي، زي ما يكون ربنا بيديني فرصة تانية.
وتذكر أمر "يزيد" الذي لم ينتهي بعد، فـ حلّ العبوس على وجهه وهو يتابع :
- بس لازم أهيأ الظروف اللي حوالينا الأول وأقفل كل المشاكل، كفاية اللي عيشناه الفترة اللي فاتت.
**************************************
هذه المرة الأولى، التي يغرق فيها بالنوم لهذه الدرجة، ولم يستمع لصوت المنبه الخاص به. نهض "يزيد" على عجلة من أمرهِ، وأنهى ارتداء ثيابه في بضع دقائق ليذهب بعدها مباشرةً إلى مقر الشركة الرئيسي. متناسيًا أثناء ذلك كل شئ آخر. بقيت ذراعهِ المتجبرة تؤرق مزاجهِ من حينٍ لآخر، حتى إنه فكر في كسر جبيرتهِ وإبقاء ذراعهِ هكذا، لكنه لم يخاطر بذلك، خاصة وأن الألم ما زال طازجًا حيًا، يضرب بقوتهِ عظام ذراعه والكتف. ولج متسرعًا بدون انتباه للأنظار المحيطة به بترصدٍ، حتى الهمهمات الجانبية لم تشغله كثيرًا گالعادة، بل كانت غير مرئية بالنسبة له أيضًا. مرّ بغرفة "نغم" أولًا، وألقى الصباح عليها قائلًا :
- صباح الخـ.....
لم يتمم كلمته، حيث تفاجئ بها غير موجودة على مكتبها. ثمة شئ غريب استرعى تركيزه، هناك غرابة في المكان لم يدركها بعد، حتى دقق كافة قدراته العقلية، لإستنتاج إن المكتب فارغًا من كل حوائجها، حتى ماكينة القهوة خاصتها غير موجودة، المكتب فارغ بشكل كامل، جعله يرتاب مما فكر فيه. دخل غرفته متعجلًا، وقد غطى العبوس على وجهه بالكامل، استخدم الهاتف الداخلي للتواصل مع الأمن، وتسائل فور ذلك :
- آنسه نغم جت النهاردة؟؟.
تحولت معالم وجهه كليًا، وهو يصيح إنذاك :
- يعني إيه جت بدري ومشيت؟؟.. إنتوا لزمتكم إيه هنا؟.
أغلق الهاتف بدون أن يستكمل المحادثة التي بقيت في منتصفها، وشرع يتصل بها، ليجد هاتفها مغلق تمامًا. أطلق سبة خافتة، وهو يطرق بعنف على الجدار مغمغمًا :
- يعني إيه تمشي وتاخدي كل حاجه!! هي وكالة!.
همّ ليغادر الشركة من جديد، بدون أن يتردد للحظة، عائدًا للمنزل، بعد أن فشلت محاولاته الغير مجدية في التواصل مع "كاريمان" أيضًا. أيقن إنها قد تكون غادرت المنزل أيضًا، لتضرب بحديثهِ عرض الحائط، وكان لظنونهِ محلّ من الصدق. "نغم" غادرت بشكل نهائي مصطحبة كافة حوائجها، سواءً بالشركة أو المنزل، لم تترك له شيئًا يدل عليها، معتقدة بذلك إنها تسترد كل ما فقدته في سبيل الوصول إلى حُبها والكفاح من أجله، بينما ذلك الحب لا يراها، لا يستشعرها، لا يحس وجودها نهائيـًا، گشئٍ اعتدت وجودهِ وضمنت بقاءهِ، فـ أسرعت روحك تستنزفهُ، معتقدًا أن رصيدك ساري، لكنـهُ بدون شعورٍ منك رصيد مُنتهـي ...
تعليقات
إرسال تعليق