رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الخامس والثمنون 85 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الخامس والثمنون 85 بقلم ياسمين عادل |
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل الخامس والثمنون 85 بقلم ياسمين عادل
"حينما لمستِ قلبي للمرة الأولى، أدركت إنني سأمرضُ بكِ لزمنٍ طويل."
________________________________________
كان القلق قد حطّ على قلبها گالقُنبلة الموقوتة، التي لم تستطع المكوث بهدوء أبدًا وهي بين أحضانها. تجولت بتوترٍ هستيري في اليمين واليسار، تتضرع بصدقٍ شديد لكي ينقذهُ الله من بين أيديهم، فـ هي أكثر من يعلم طبائع عائلتها ولاسيما أبناء عمها، عندما سيجتمع "يزيد" معهم ستقوم الكارثة الفعلية. تحسست "نغم" صدرها الذي أطبقت أضلعهِ على أنفاسها تخنقها، وتمتمت بصوتٍ خفيض :
- يارب ماليش غيرك، يارب إنت عارف إن مفيش أي حاجه من اللي قالوها حصلت.
لم تكن "كاريمان" أقل منها قلقًا على حفيدها المتهور، الذي تعلم جيدًا إلى أي حدٍ يصل جنونهِ. منعت "كاريمان" نفسها من البكاء، وبقيت صامدة حتى تراه بكامل سلامتهِ أمام عينيها، حتى تحقق ذلك.
صوت الباب استرعى اهتمامهم، فـ ركضت "نغم" للخارج وفي أعقابها "كاريمان" تسير بتمهلٍ، حتى وقعت أنظارهم عليه يدخل بتلك الحالة، ذراعهِ المغلف بالجبيرة ورأسهِ المصابة ويكسو موضع إصابتهِ غلاف طبي للحماية من التلوث. كتمت "نغم" شهقة مكلومة، بعدما أبصرتةبما حلّ به بسببها، وقبيل أن تمتلئ عيناها بالدموع كان "يونس" يطمئنها قليلًا :
- محصلش حاجه يانغم، دي حادثة بسيطة وعدت على خير.
تلهفت "كاريمان" وهي تُقبل عليه ببطء، وتهدجت أنفاسها وهي تناديهِ مذعورة، بعد أن رأتهُ هكذا :
- يـزيـد!. إيه اللي حصلك ياحبيبي؟.
فـ قطع "يزيد" المسافات وهو يدنو منها، محاولًا أن يبدو بخير :
- أنا كويس يانينه، حادثة على الطريق بس.
وكأنها لم تقتنع كثيرًا، فـ وزعت نظراتها المستشفة على كلاهما، وتسائلت بنبرة متشككة :
- حادثة!!.. مش باين كده!.
لم تتحمل الوقوف هكذا، تراه من بُعد لا تملك حق الإقتراب، أحست بالذنب وكأنه إنسان يمزق في داخلها، فـ انسحبت بتعجلٍ للداخل بدون أن تنبث كلمة واحدة، فأشار "يزيد" برأسه، تعبيرًا عن إنه سيبادر بالتصرف، حينما التفت "عيسى" بنصف رأس، وغمغم متبرمًا من وضعهم :
- أنا مبقتش فاهم حاجه، هو بيحبها وعايزها، ولا كارهها ومش عايزها!.
تنهد "يونس" بعدما أخرج يدهِ من جيب بنطالهِ، وأردف بـ :
- هو نفسه مش عارف هو عايز إيه، بيكابر على الفاضي.
ثم خطى نحو جدته، أمسك بمرفقها قائلًا بنبرة لطيفة :
- تعالي ياحببتي ارتاحي، إنتي تعبتي النهاردة.
تراءَت صورة "ملك" أمام عينيه، مفتقدًا بشدة سماع صوتها ورؤيتها، تنفس الهواء الذي يحمل رائحتها، أحس بـ إنهاك شديد يعبث بروحهِ قبيل رأسه، أطبق جفونهِ ببعض العنف، يفكر في سبيل لترك كل ذلك خلف ظهرهِ، والذهاب إليها على الفور، ليجد السلام بقربهِ منها، بعد كثير من المعارك التي خاضها - ويخوضها - تلك الآونة.
ترك "يزيد" الباب مفتوح، عندما دخل غرفتها للتحدث معها. كانت عيناها تنهمر بالدموع ملتزمة الصمت، مُصرّة على مغادرة حياتهم بالكامل، بعدما تسببت بدون عمدٍ في دخولهم لبؤرة الكارثة. نظرت صوبهِ من طرفها، واعتذرت عما أصابه متسببة هي به :
- آسـفة.
أحس بكامل مشاعرها التي تهاجمها الآن، والتي سبق واستشعرها هو من قبل، مشاعر الذنب، تلك المشاعر المميتة بقوتها؛ ولأنه خبيرًا في جلد ذاتهِ، أراد ألا تشعر هي بنفس تلك المشاعر، وأسرع يقول بجدية :
- إنتي ملكيش أي ذنب، بالعكس، أنا السبب.. لولايا مكنش حد شافك هناك يومها.
ثم نظر بذراعهِ المغلفة بالجبيرة ومازحها قليلًا :
- كده خالصين، أنا اتسببت في خياطة رجلك، وانتي اتسببتي في تجبيس إيدي.
رفعت "نغم" أنظارها إلى رأسه، حيث إصابته الأخرى، فـ تحسسها "يزيد" برفق متابعًا :
- مش خالصين أوي يعني.
ثم أشار إليها لتجلس :
- أقعدي يانغم وإسمعيني.
لم تفكر كثيرًا، وكأن نيتها المبيتة لم تتغير :
- أنا همشي يايزيد.. مينفعش أورطك أكتر من كده.
أفتر ثغره بإبتسامة باهتة، غلب عليها شعور الإرهاق :
- أنا اتورطت بيكي من زمان.. أكيد مش هسيبك دلوقتي.
لكنها كانت جادة جدًا وهي تجيبه :
- مش بمزاجنا، عمي مش هيسيبك غير لما ينفذ اللي في دماغه، وأنا مش هضحي بـ.....
ألجمت كلمتها الأخيرة بصعوبة جمّة، ونظراتها تلتقي بنظراتهِ الغريبة، وأسبلت جفونها محاولة تخطي هذا الضعف الذي ينتابها بقوة وهي بقربهِ :
- مش عايزة احطك في خطر.
اغتصب ضحكة مريرة، بعدما تذكر بعض المشاهد القديمة، التي أحيت نفسها بنفسها في عقلهِ و :
- أنا اتعودت على الخطر خلاص، المهم أخرجك من الوضع ده.. عرفيني إيه اللي ممكن نلعب عليه عشان عمك يتراجع عن اللي دماغه.
زفرت بإختناقٍ جثم على صدرها كله، زعلت نبرة صوتها بإنفعالٍ غير مقصود :
- لـيه مش فـاهمني، عمي مش هيرجع عن اللي في راسه مهما حصل، أنا عرفاه و.....
فقاطعها بنفاذ صبر، وقد ضاق ذرعًا من اجتهاداتها لتثبيط عزيمته الخائرة :
- كفايـة يانـغم، عايزاني أعمل إيـه.. أسيبك تروحي ضحية ولا أتـجوزك عشان يحلّ عن سمـانا!.
وكأنه قالها من باب التعطف والشفقة عليها، لم تحمل نبرته أدنى معاني الرغبة بذلك فعلًا، مما جمدها بمكانها گالصنم. تعلقت عيناها اللامعة بإنكسار عليه، وكأنما ترى حينما تنظر إنسان متبلد لم يشعر بقلبها قط. نظراتها تلك وخزت قلبه وقبضتهُ، أحس بفداحة عبارتهِ المتسرعة التي رمى بها في وجهها، فـ أبعد عيناه عن أنظارها، ليستمع إلى صوتها الذي خفت فجأة :
- أطلع بـرا.
رفع بصرهِ إليها ثانيةً، ليرى أشباح الدموع تتراقص بين حدقتيها، تكاد تنهمر بفيضٍ غزير، لم يحرك ساكنًا، فعادت تقولها من جديد بشكلٍ أعنف :
- بـــرا يا يزيد، سيبنـي لـوحـدي.
أشار لها لتهدأ، مستشعرًا بالفعل الخطأ الشنيع الذي ارتكبهُ :
- أنا بعتذرلك، مقصدتش المعنى اللي وصلك.
أوفضت نحو الباب، فتحتهُ على مصرعيهِ، ونظرت للفراغ منتظرة أن يخطو للخروج. لم تكن لديه طاقة تكفيهِ للتحاور، أحس بالأرض تدور من حوله، فاقدًا قوتهِ بالكامل، فـ انسحب من الغرفة بصمتٍ دون الإطالة في تلك المجادلة التي لم تأتي بثمارها، وانتقل لغرفته حتى يختلي بنفسه قليلًا، مستعيدًا بذلك بعض من طاقته المفقودة، حتى تتسنى له الفرصة في فرض رأيه عليها غدًا.
******************************************
في غرة الصباح، نظر بعينان جائعتان، إلى ذلك المنزل البعيد عن العيون، والمتفرد بهيئتهِ العصرية بين مثيله من المنازل المُطلة على البحر. وقذف بصبابة سيجارتهِ وهو يتحدث لأحد رجاله :
- متأكد إنها جوا ياواد؟.
فأكد الصبي على حديثه متشددًا :
- طبعًا يامعلم، ده أنا مفارقتش الڤيلا طول الليل أنا والرجالة زي ما وصتني.. هي جوا معاها واحد إسمه بِشر، الراجل بتاعها يعني.
مد "سيد" يده مرددًا بسعادة تجلت في نبرته :
- طب ناولني التليفون المحمول عشان أكلم الباشا وأشوفه وصل فين.. لو اللي في دماغي حصل هتبقى فيها خير ليكم كلكم.
إلتمعت عينا الصبي بتشوقٍ شديد وهو يناوله الهاتف، ليضعه "سيد" على أذنه متسائلًا :
- وصلت فين ياأبو البشوات!؟.. الأمانة خلاص معانا.
تلقى أمرًا من "يونس"، فأومأ برأسه قائلًا :
- حالًا.. مستنيك ياأبو البشوات.
أغلق "سيد" هاتفهِ وهو ينظر بدقة للمنزل، ثم أردف بجدية :
- خلي الرجاله يجهزوا عشان ندخل جوا، هنأمن البيت كله عقبال ما الباشا ييجي.. المرة دي لازم تصيب ياوله.
- من عيني.
وفرّ الصبي من أمامهِ راكضًا، بينما فرك "سيد" كفيهِ سويًا بإشتهاء ، وتمتم بصوتٍ متحفز للإنقضاض عليها :
- والله وهتلعب معاك ياسيد.. خلينا نتسلى شوية.
****************************************
أنهى "يونس" زجاجة المياة المعدنية التي كان يرتشفها، ونظر جيدًا للطريق أمامه وهو يتسائل بحزمٍ :
- فاضل كتير ياعيسى ؟.
- هانت ياباشا.
تحمس "يونس" بشدة لذلك اللقاء المنتظر، الذي أعدّ له كثيرًا. أخيرًا وصل لنهاية المطاف، سينهي تلك القصة ويجتث بنفسه جذور كراهيتها اللعينة تلك، التي جعلته يعيش الأمرّيِن. وسيرى نصب عينيه ميتتها البشعة التي فصلّها خصيصًا لتليق بها، إرضاءًا لروحهِ العَطِشة للإنتقام منها. نظر "يونس" لساعة يده، وتسائل بخفوت :
- ياترى ملك صحيت ولا لسه؟.
ثم التفت لـ "عيسى" :
- أمنت المستشفى زي ما فهمتك صح ياعيسى ؟؟.
- كله تمام ياباشا متقلقش انت بس.
نفخ "يونس" بإنزعاج شديد، وأمر شقيقهِ يشغل جانبًا كبيرًا من تفكيره :
- مقلقش إزاي! ده انا لسه ورايا موضوع يزيد.
ضرب "يونس" باب السيارة بيده منفعلًا، وصلح وقد فاض به الكيل :
- أقتلني ياعيسى أحسن!.. أقتلني بدل اللي أنا فيه ده.
ذمّ "عيسى" شفتيهِ بأسف، وهتف بصوت حزين :
- مش عارف أقولك إيه ياباشا، كان الله في العون.
هز "يونس" رأسه بإستسلام، وأردف بـ :
- أنا لازم أمشي من هنا، هاخد ملك وأسيبلكم مصر كلها، أخلص بس كل الحكايات المنفده على بعضها دي الأول.
وتلوت شفتيه متذمرًا وهو يتابع :
- باينها مش هتخلص قبل ما تخلص عليا.
****************************************
كتم صرخة عنيفة، نجمت عن آلامهِ الموجعة أثناء ارتداء قميصهِ الأسود، وتهدجت أنفاسهِ وهو يجلس قليلًا. أهتزت ساقهِ بتوترٍ، وهو يتوعدهم بإنفعال :
- وحياة أمي ما هعديها ليكم على خير ، أفوق بس الأول.
نهض عن جلستهِ، لمح بشرتهِ المحمرة في مرآة الخزانة، فـ صرّ على أسنانهِ مغتاظًا، وهو يشق طريقهِ للخارج للذهاب إليها. يكاد يجزم إنها بنفس تلك الحالة التي تركها عليها بالأمس، بل الجائز إنها أسوأ من ذلك أيضًا. مسح على شعرهِ مسحة واحدة، قبل أن يطرق الباب ويدخل إليها. كانت تجلس ممسكة بفنجان من القهوة السريعة بنكهة البندق، ترتشفهُ بهدوءٍ كأن شيئًا لم يكن، تنغض جبينه بإستغراب، وهو يدنو منها قائلًا :
- إنتي كويسة؟
- آه.
أجابت بفتور لازم صوتها، فسأل بشكلٍ آخر :
- طب فكرتي في كلامي؟
- آه.
لم تنظر حياله حتى الآن، مما استرعى ضيقهِ الشديد منها، وراح يهدر قائلًا :
- مالك يانغـم؟؟.
تركت كوبها في منتصفه، ووقفت عن جلستها قائلة :
- أبدًا مفيش.. إنت شايف في حاجه؟
لم يتحمل تلك الطريقة المستثيرة لأعصابهِ التالفة أكثر، وأراد أن ينهي الحوار بأسرع وقت لئلا ينفجر في وجهها :
- وقررتي إيه ؟.
بالرغم من ثقل الهمّ على كاهلها، إلا إنها تظاهرت بنقيض ذلك، وهي تنفي وجود أدنى رغبة لديها فيه :
- هلاقي حل بنفسي، لكن الأكيد إني عمري ما هـتـجـوزك يا يزيد.
وابتسمت متعمدة إثارته أكثر، وهي تقول بتعمدٍ :
- أوعى غرورك يصورلك إني هقبل بحل زى ده، إنت عمرك ما كنت الإنسان اللي بـحلم بيـه .
تبين الصدق في عينها الكاذبة، رغمًا عن قلبها المريض بحُبه، كافحت ذلك الحُب الذي كلفها كثيرًا، والآن سيكلفها روحها، في سبيل أن لا تبدو مهتزة أمامه، أو تبرز ضعفها له. وبالرغم من رؤيته لكل ذلك، إلا أن قلبه كذب ذلك، واعتنق فكرتهِ متمسكًا برأيه دونها :
- ده مكنش إختيـار يا نـغم، بس طالما إنتي مش شايفة الصح قدامك، يبقى إنا مضطر أعمله غصب عن عين أهلك كلهم.
توترت من كلماته الموحية، وتسائلت بتوجسٍ :
- يعني إيـه!.
تبدل الوضع وبقيت إبتسامته الآخيرة هي الباقية :
- مش لازم خالص تفهمي.. صـباح الخير.
واستدار ليخرج من هنا مدعيًا الهدوء، وهو على علم بإنه ترك وراءهِ قلب متقد من فرط لهيبه، لكن ذلك لا يعني به شيئًا في سبيل إنقاذ الوضع، الذي أُجبر كلاهما على مجابهتهِ.
******************************************
وصل "عيسى" للعنوان المقصود، بعد قيادة استمرت لأكثر من ساعتين، وقبل أن يصفّ سيارته كان "يونس" يترجل منها متلهفًا لرؤية وجهها. حرص على عدم تعريض نفسه للخطر أو لأي مجهود مضاعف، حتى يعود إليها سالمًا، وينفذ كافة وعودهِ لها. انفتح الباب له فـ أوفض للداخل، لسؤى رجال" سيد"منتشرين في الأرجاء للسيطرة على الوضع بالكامل. رأى "بِشر" مكبلًا وجالسًا على الأرضية معرضًا لتهديد السلاح، فـ تراقصت ابتسامة متشفية على ثغر" يونس"، وهو يزجرهُ بنظرة جامدة ليقول :
- أهلًا يابشر، ليك وحشة ياراجل.
أشاح "بِشر" ببصره عنه، وعلى وجهه تعابير السخط جليِّة، فلم يهتم "يونس" له كثيرًا، والتفت يسأل أحدهم :
- سيد فين؟.
فأشار الصبي لأعلى :
- فوق مع باقي الرجالة.
ارتفع الإدرينالين في دمائه أكثر، كلما اقتربت منه لحظة المواجهة، سيثأر لزوجته الراحلة، ولحبيبتهِ التي كادت ترحل عن دنياه هي الأخرى. سيُذيقها العذاب حتى تكتفي، أو يكتفي هو. أنهى "يونس" الدرج وهو يتنفس بمعدلٍ سريع، وما أن رأى "سيد" قبالته حتى سأل بتلهفٍ غير مسبوق :
- هي فين؟؟.
فأشار "سيد" للداخل، والإبتسامة العريضة ملء شدقيه :
- حابسينها في الأوضة جوا، متقلقش في رجالة تحت البلكونة أحسن تتهف في نفوخها وتنط.
فـ ضرب "يونس" على كتفهِ محفزًا إياه، وتبينت تعابير الإعجاب على وجهه :
- جدع ياسيد، كنت عارف إنك قدها.
فتح "يونس" الباب متشوقًا، كي يراها في وضع ذليل يليق تمامًا بها؛ لكنهُ بُهت في الحال، وتغيرت تعابير وجهه بالكامل، بعدما قيدت الصدمة بقوتها كافة حواسهِ...
تعليقات
إرسال تعليق