رواية دمية مطرزة بالحب الفصل السابع والستون 67 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل السابع والستون 67 بقلم ياسمين عادل |
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل السابع والستون 67 بقلم ياسمين عادل
"الواقع مُجحفًا ،قاسيًا ،جلّادًا.. أسوأ كثيرًا من مجرد الحُلم به."
__________________________________________
"مـلك"
سارقة قلبهِ، لُبّهِ، عقلهِ، وحتى كيانهِ.. لم يتخيل يومًا أن يجد إمرأة تخطفهُ بهذا الشكل الغير متوقع.
هي الحقيقة الوحيدة التي تغيرت لها كل حياتهِ، مجرد وجودها يبعث على نفسهِ مشاعرٍ لم يعشها من قبل.. أينما تواجدت تتواجد سعادتهِ، من أجلها ولأجلها يستطيع فعل المستحيل، يكفيهِ أن يجابه العالم بها، وهي كتفها في كتفهِ تُآزره وتسير معه الطريق كله.. كلاهما يستطيع تطييّب جروح الآخر.
أنفاسها التي ترتطم بـ صفحة وجهه، وقُربها الشديد منه، جعلهُ يفقد أي شعور سوى بـ لهيبٍ تصاعد بـ صدرهِ مُحدثًا هاله من حوله، أعجزتهُ عن رؤية شئ سواها.. فتح عيناه لتتعلق أنظارهِ الشغوفة بها عليها.. تبدو فاتنة شديدة الحُسن بثوبها الأبيض الناعم، ابتسم بحبورٍ بيّن وهو يُختخت بالقرب من أذنها :
- بـحبك ياملك، بحبك
لم ينفك يختم اعترافهِ، حتى أحس بـ سيّل دافئ يغمر كفهِ الآخذ موضعهِ حول خصرها، وجهها شحب فجأة وكأن الدماء فرّت منه، جحظت عيناها گالتي تُسلب منها الروح، وانكتمت أنفاسها بين أضلعها.
ارتبك "يونس" واضطربت أنفاسهِ، رمقها بنظراتٍ مذعورة ، وسأل بـ لهثٍ مفزوع :
- مـلك ؟؟ مـالك؟؟
انسحبت يداه من خلف ظهرها، لـ يراها غارقة في الدماء، وببطءٍ مُفزع ومُميت كانت تهوى من بين ذراعيهِ، تاركة ساقيها الرخوتين تقودنّها إلى الأرض الصلبة لـ ترتطم بها، مستسلمة لفحيح الموت استسلامًا عاجزًا.
انتفض "يونس" انتفاضة قوية، ولهث غير قادر على التقاط أنفاسهِ بصورة منتظمة، نظر حولهِ بهلعٍ بعد أن رأى كابوسًا مريعًا زرع الرعب في بواطنهِ وكأنه حقيقة، وبنظراتٍ ما زالت متأثرة بآثار النعاس؛ هبّ "يونس" من فراشهِ وركض گالملسوع للخارج، هرع لغرفتها غير شاعر بنفسهِ.. فتح الباب على مصرعيهِ وأضاء إنارة الغرفة بالضغط على زر الإضاءة وهو يصيح مناديًا بـ إسمها :
- مــلك! ؟
فزعت "ملك" وحاولت فتح عيناها الناعستين، اعتدلت في نومتها وتسائلت بقلق :
- في إيـه يايونس؟ حصل حاجه ولا إيه؟؟
ركض نحوها، جلس قرابتها وسألها بتلهفٍ شديد وهو يتفحصها جيدًا :
- أنتي كويسة صح؟؟ فيكي حاجه؟
فـ بدأت تستعيد بعضٍ من إدراكها وهي تُجيب :
- أنا كويسة والله، قولي بس مالك
كانت جبهتهِ متعرقة، ووجههِ شاحبًا گالذي رأى ما لا يُحمد عُقباه، فـ مسحت على وجهه بكفيها الناعمين وأعادت السؤال :
- في إيه يايونس!
فـ اجتذبها بشكلٍ خاطف وضمها إلى صدرهِ، شدد يديهِ عليها وكأنه يحميها من شئ ما، فـ أثار رعبها أكثر وأكثر، ربتت على كتفهِ وهي تشعر بـ ارتجافة أوصالهِ التي سرت في جسدهِ كله.. وتملكتها الرهبة لرؤيتها حالتهِ تلك المثيرة للهلع، بينما هو إنسان قوي متماسك لا يبزغ ضعغهِ بسهولة، وسألت بتخوفٍ:
- يونس متقلقنيش وقولي في إيه؟
وقبل أن أن تبتعد لترى وجهه، تشبث بها أكثر وأكثر، وخرج صوتهِ الممشوج بـ رعشة جليّة :
- متبعديش، خليكي جمبي
فـ هزّت رأسها و :
- حاضر، أنا معاك أهو
ظل سجين هذه اللحظة التي تبعث إليه طمأنينة مؤقتة، لم يبتعد أو يتركها طوال الليل، ولم يتذوق جفنهِ النوم.. ظل جوارها حتى غفت هي، أما هو كانت عيناه تحرسانها طوال ساعات الليل المظلمة.
حتى أشرق الصباح بـ ضوئهِ الخافت كان في غرفتها، ظل واجمًا يابس الوجه، متجمد الملامح، لم يلين أبدًا.. متأثرًا بما داهمهُ ليلًا من حُلم ظن للحظة إنه حقيقي.
أشرأبت "ملك" برأسها من خلف الباب وهي تنظر إليه، كان في الشرفة يُدخن بشراهة منذ الثامنة صباحًا كما وصف "مهدي"، حرق صدرهِ بكمية هائلة من السجائى لم يكتفي بها، وعيناه تسبحان في مكان بعيد كأنه ليس في الدنيا.
آتاه صوتها من الخلف، فـ أسرع يلقى صبابة سيجارتهِ من
الشرفة والتفت إليها يسأل بـ اهتمامٍ متلهف :
- إيه اللي صحاكي بدري ياملك؟ أنا خرجت من الأوضة الصبح وسيبتك تكملي نوم براحتك
فـ أقبلت عليه وهي تتفحص حالتهِ الغريبة تلك التي لم تراه عليها من قبل قطّ، وسألت بتوجس :
- أنا نمت كويس متقلقش، مالك من امبارح يايونس
فـ حاول خداعها بـ ابتسامة تجلّى لها إنها مزيفة :
- مفيش، مشاكل في الشغل.. تقريبـًا مبقتش عارف أفصل بين الشغل وبين حياتي الشخصية وضغط على نفسي زيادة عن اللزوم
دنت منه لتقطع المسافة بينهما، ووضعت يُمناها على صدرهِ وهي تقول :
- ليه بتكذب عليا يايونس؟ مخبي إيه عني!
فـ تنهد بثقل شديد وهو يردد :
- طالما عرفتي إني بكذب يبقى فهمتي إني مش عايز أتكلم، هبقى أحكيلك بعدين
لم تجد سلواها في جوابهِ المتواري، فسألتهُ بشأن سفرهم اليوم :
- طب هنسافر النهاردة القاهرة زي ما قولتلي
فـ أجاب بسرعة وبإجابة حازمة :
- لأ
ثم ضبط انفعالاتهِ ولانت نبرتهِ وهو يستطرد :
- أقصد مش دلوقتي، خليها لما أكون فاضي عشان أخلي بالي منك ومن نينة
لم تصدق أيًا مما قال، بل أن شعورها وحدسها أيقن بوجود أمرٍ خطير يدسهُ عنها ويواريهِ بـ حجتهِ الواهية الضعيفة.
قطعت "خديجة" حوارهم بوقوفها بالقرب من الباب، وأردفت بـ :
- الفطار جاهز والهانم الكبيرة مستنياكم
فـ أومأ "يونس" و :
- جايين
ثم نظر نحوها وبعث إليها إبتسامة لطيفة و :
- أنزلي انتي وأنا هغسل وشي وآجي وراكي
- حاضر
وغادرت تاركة عقلها معه، متيقنة من حدوث أمرٍ ما قلب كل شئ رأسٍ على عقب.. هو ليس إنسان ينهزم أمام ضيقهِ وضغوطه، لذلك يبدو أن الأمر جلّ خطير وإلا ما أحدث به طفرة قوية گهذه.
لم يرتاح "يونس" بأي شكل، وبقى بداخلهِ غصة تتألم كلما ازداد التفكير في الأمر.. لم يجد حل سوى الإستعداد لأي شئ قد يطرأ عليهم، فـ وجد نفسهِ وبدون تفكير يتصل بـ شقيقهِ لكي يأمره بـ :
- أيوة يايزيد، عايزك تتصل بشركة الأمن اللي بنتعامل معاها، محتاج ناس للمزرعة
قطب "يزيد" جبينه وسأل بتحير :
- ليه في حاجه حصلت ولا إيه!
فـ أجاب "يونس" بـ اقتضاب :
- مش لازم استنى حاجه تحصل، خلص الموضوع ده وعرفني في أسرع وقت ممكن
- حاضر
أغلق معه وهو يطلق زفيرًا محمومًا من صدرهِ الذي يعج بنيران الذعر التي لم تتركهُ وشأنه بأي شكل، ومسح على رأسهِ وهو يغمغم بـ :
- مش هسمح حاجه زي دي تحصل
أغلق "يزيد" معه وخرج من مكتبهِ بدون أن يترك دقيقة واحدة، انحرف يسارًا حيث مكتب "نغم".. كانت مرتكزة بعيناها على الحاسوب الشخصي حتى أحست بوجودهِ، فـ رفعت عيناها صوبهِ وتسائلت بجدية :
- في حاجه يامستر يزيد؟
فـ نظر حولهُ متشتتًا و :
- آه، في note فيها رقم تليفون شركة الأمن، حاولي تتواصلي معاهم وتاخدي أقرب معاد ضروري
- حاضر
وعاد لغرفتهِ والفضول ينهش من رأسه، ما السبب الخطير الذي دفع "يونس" للتفكير في استدعاء رجال أمن لحراسة المزرعة؟.. يبدو أن الأمر ليس سهلًا، ما حضر على ذهنه في هذه اللحظة تحديدًا هو شخص واحد فقط "معتصم"، وترسخت الفكرة في عقلهِ أكثر وأكثر بشكل أجج سخونة رأسه.
دخلت "نغم" إليه وقالت برسمية تناسب مكانتها :
- أتواصلت معاهم وفي حد هييجي الساعة ٢
- تمام
فسألت بفضول :
- هو في حاجه حصلت ولا إيه؟
فأجاب وعقلهِ منشغل :
- لأ، بس يونس محتاج أفراد أمن عشان المزرعة
فـ قلقت "نغم" وتسرب إليها شعور الخوف :
- هي ملك كويسة ؟
- أكيد، ولا مكنش زماني هنا دلوقتي
ارتخت عضلاتها المتشنجة قليلًا وارتاحت :
- طب الحمد لله، أنا هرجع مكتبي
نظر لقدميها بـ اهتمام، واستوقفها متسائلًا :
- نغم ، رجلك عاملة إيه دلوقتي؟
فـ ابتسمت بـ وداعةٍ و :
- الحمد لله أحسن، شكرًا على اهتمامك
فـ أومأ إيماءه خفيفة، أعقبتها هي بخروجها من الغرفة وهي سعيدة بسعادةٍ تجلّت على وجهها.. مجرد اهتمامه بها يبعث في نفسها أملٍ قد طوت صفحتهِ وآمنت إنه مستحيل.. ولكن من بين رماد قلبهِ يحاول أن يحيا معها من جديد، هكذا استشعرت، تلك المحاولة التي يقوم بها تُجدد الروح فيها، تجعلها تتضرع بدون توقف، لئن يكون لها نصيبًا في النهاية.
...........................................................................
ثورتهِ لا تخمد، وانفعالهِ ما هو إلا تنفيث عن مكبوتاتهِ الحانقة عليها بعدما أرادت تركهِ في منتصف الطريق.
فور تأكدها إنه لن ينفع بشئ في ظل إنها كُشفت، قررت أن تتخلى عن حمايتهِ وإبقاءه لديها.
هدر "معتصم" فيها وهو يقول بصياح :
- بعد ما لبست أنا تهمة إني حاولت يزيد جاية دلوقتي تقوليلي شوف حالك؟؟
فـ أجابت بـ جفاء وفتور زائد، يؤجج الغضب ويثوّره :
- تقرير الطب الشرعي أثبت وجود طرف غيرك يامعتصم، يعني انت لبست الجريمة اللي عملتها بس
ثم ضحكت بـ استهزاء متابعة :
- قول بقى إن اللعبة عجبتك وعايز تفضل معايا على طول!
فـ ذمّ شفتيهِ بحنق بلغ آخره وهو يتذكر ما خسره :
- أنا خسرت كل حاجه، حتى مراتي قتلتها بأيدي بدل ما اقتله هو
فـ لم تهتم بحكاياتهِ التي لا تنتهي، وإدعائهِ المستمر بإنه المظلوم الوحيد والخاسر في تلك القصة التي ابتدعها هو، وقالت بـ ابتسامة عريضة زينت محياها :
- كل اللي بتقوله ده مش مهم بالنسبالي يامعتصم، النهاردة الليلة الكبيرة وهنفرح كلنا وأنا مش عايز أفوت على نفسي الإنتصار ده
ضاقت عيناه بدون أن يفهم إلى أي شئ ترمي بالتحديد، وسأل مباشرة :
- قصدك إيه؟
قهقهت بصوتٍ مرتفع، وأردفت بنبرة متغنجة :
- هتعرف كل حاجه في وقتها، بلاش استعجال
وأرخت ظهرها للخلف، متخيلة كم ستكون سعادتها إن تحقق مرادها الرخيص الليلة، منتظرة على أحرّ من الجمر، أن يُزفّ إليها الخبر بـ إتمام المُهمة كاملة.
............................................................................
لم يهنأ "يونس" بعشاء خاص معها، حيث أرسل إليه "يزيد" رسالة عبر هاتفهِ يفيد فيها بموقعه، ويبلغه بـ تعطل سيارته في الطريق.. فـ ما كان من "يونس" إلا إنه تحرك فورًا بسيارتهِ نحو الموقع لـ جلب شقيقهِ.
تركها على أن يعود إليها بسرعة، فـ ظلت هي في غرفتها كي تُنهي حياكة (الكوفية) الصوفية خاصتهِ وتسلمها له الليلة.. مكثت وقت ليس طويل استطاعت فيه الإنتهاء منها بالكامل، عندئذٍ ابتهجت بحق.
خرجت "ملك" من غرفتها قاصدة غرفته، بحثت بين حوائجهِ على العطر الخاص حتى وجدته، ثم أغرقت (الكوفية) به حتى تشبعت.. ومن ثم اشتمتها ودفنت أنفها فيها، ثم أبعدتها ونظراتها المُعجبة متعلقة بها، واستعدت للخروج وهي تغمغم بسعادة :
- هتعجبه أوي أوي
—على جانب آخر—
كان "يونس" مستغلًا فرصة هدوء الطريق وعدم ازدحامهِ وسار بسرعة كي يجتاز الطريق في أسرع وقت ممكن ويعود إليها، عقلهِ الشارد فيها منعه من الإنتباه لهاتفه الذي أصدر صوتٍ مزعج، لكنه انتبه في المرة الثانية لذلك الرقم الغير مسجل الذي يتصل به، وأجاب مستعينًا بـ مكبر الصوت :
- ألــو
فـ آتاه صوت "يزيد" قائلًا :
- أيوة يا يونس، أنا في الطريق للمزرعة أوعى تكون نزلت القاهرة!
فـ قطب "يونس" جبينه و :
- ماانا جايلك أهو يابني، أنت اتحركت من المكان اللي قولتلي عليه؟
فـ تجهم وجه "يزيد" ولم يفهم تحديدًا مقصد شقيقهِ :
- جاي فين؟
فـ ارتفع حاجبي "يونس" مدهوشًا وهو يسأله :
- أنت مش بعتلي موقع لمكانك وقولت إنك عطلت بالعربية هناك؟
فـ أردف "يزيد" على الفور :
- موقع إيه أنا مش فاهم حاجه، أنا ناسي تليفوني في الشركة وكسلت أرجع أجيبه تاني
توقف "يونس" بسيارتهِ على الجانب كي يستوعب عقلهِ ما يجري.. تناول هاتفهِ وأغلق المكبر لكي يتحدث فيه بـ اضطراب ملحوظ :
- يعني إيـه؟
ظللت غمامة على رأسه، وحجبت صورة "ملك" التي انبثقت أمام عينيهِ رؤيته، وغمغم بـ ذعرٍ تمكنّ من حواسهِ أجمع :
- مـلك !.. حد حاول يبعدني عن ملك!
لحظة واحدة فرقت بينه وبين محاولتهِ ليُدير السيارة عائدًا إليها، في حين تدارك "يزيد" الوضع بدوره :
- أنت فين طيب؟ ، أنا عند البنزينة اللي قبل المزرعة
فـ حثّه للتحرك إليها بسرعة كونهِ الأقرب منه :
- روح للمزرعة بسرعة يايزيد، أنت أقرب مني، بسرعة
أغلق "يزيد" المكالمة وأعطى الهاتف للعامل الموجود أمامه، ثم ناولهُ إكرامية سخيّة مرفقة بـ ثمن البنزين الذي ملأ به سيارتهِ، وراح يستقر في سيارتهِ بعجلٍ لكي يتحرك بها إلى هناك فورًا.
...........................................................................
خرجت" ملك" من باب القصر مبتهجة سعيدة، لمس الكلأ جانبي قدميها المكشوفتين من حذائها، ووضعت (الكوفية) خاصة "يونس" حول عنقها مستمتعة بالرائحة النفاذة التي تنبعث منها.. خطت برشاقةٍ تُدندن بصوتٍ ناعم، تسرب لآذانها الضجيج الذي صدر من ناحية أسطبل الخيول، حتى إنها ميّزت صوت صهيل "فرحان".. فـ انعقد حاجبيها وسارت بـ اتجاه الصوت وهي تردف :
- ده صوت فرحان!
سارت متعجلة نحو الأسطبل، وأثناء دخولها صاحت بـ :
- مالك يافرحـ........
ألجمت الصدمة لسانها، وتجمدت في مكانها.. حينما وقعت عيناها على ثلاث من الرجال كانوا يتبادلون النظرات فيما بينهم عندما داهتمتهم.. كانوا قد حرروا "ريحان" من رباطها مستعدين لـ أخذها من هنا لولا صهيل "فرحان، ريحان" الذي فضح أمرهم.
صرخت "ملك" مستغيثة عندما حاولت الركض للخارج :
- ألحـقــونـ.........
ولكن أحدهم كان يُكمم فمها ليخرس صوتها، تلوت بين يديهِ بتشنجٍ لم يستطع هو مجابهتهِ، خاصة إنها استخدمت أظافرها الصغيرة في محاولة التخلص من قبضتهِ الغليظة.. انفلتت منه لكنه كان أسرع في الإمساك بها من جديد، ومع صرختها الثانية :
- يانينــ..... آآآه
تلقت ضربة قوية على رأسها لم تفقدها وعيها، ولكنها اسقطتها من فرط قوتها، فـ صاح فيه أحد المرافقين له :
- ياحمادة سيبها خلينا نخلص من أم الليلة دي
فـ هدر فيه "حمادة" :
- لو سيبتها هتفضحنا ومش هنلحق نخلص ياحيلتها!
زحفت "ملك" للخروج من هنا مستخدمة كل قوتها، لكنها تفاجئت بذاك اللعين يسحب ساقيها ويسحلها للداخل مرة أخرى، فـ دفعته بساقيها دفعة قوية ردت في صدره، وقاومت آلامها القاسية لتقف من جديد.. أنذاك كان قد طالها، اجتذبها من شعرها لتخرج صرخة صادحة منها، انكتمت عندما طُعنت بالسكين طعنتين متتاليتين متقاربتين.. هول الوجع أخرس صوتها، اتسعت عيناها حتى كادت تخرج من محجريهما، وسقطت مفترشة على الأرض سابحة في دمائها الغزيرة التي انهمرت من مكان إصابتها.. فـ هدر أحدهم بصوتهِ موبخًا "حمادة" :
- يخرب بيتك وديتنا في داهيه !
لم تلبث "ملك" بالوقوع ، حتى تمردت "ريحان" واهتاجت فجأة ، رفعت ساقيها عاليًا وراحت تهبط بهما فجأة لتسدد ضربة عنيفة لـ "حمادة" عدة مرات متتالية ثأرًا لصاحبتها التي رأت نصب عينيها الإعتداء عليها.. لم تتهاون "ريحان" بفطرتها الحيوانية المُدافعة، حتى سقط "حمادة" وخمد جسدهِ نهائيًا وسط شدوه رفيقيهِ وصدمتهم.
حينئذ لم يقف كلاهما ثابتين، حيث هرع أحدهم للخارج وهو يصيح :
- يلا بينا بسرعة
- طب والحصان؟
فـ اجتذبه رفيقه و :
- ياعم الروح أولى، ولا عايز تحصله!
وهرع كلاهما بدون حتى النظر لتلك المسكينة التي تمت التضحية بها في سبيل عدم كشف مخططهم الدنيء، تاركين إياها غارقة في بركة من الدماء نتيجة سيولة في دمائها.. أحنت "ريحان" رأسها نحو "ملك"، هزّتها هزاتٍ خفيفة لم تؤثر فيها بأي شكل، حتى أن عينيّ "ريحان" أدمعتا وهي تواصل محاولاتها الفطرية لإنقاذ صديقتها، ولكن في النهاية لم تستطع سوى الصهيل بصوتٍ صادح علّ أحد يستجيب لـ استغاثاتها.
فرّت السيارة من أمام بوابة المزرعة مُحدثة غبارًا كثيفًا من خلفها، عندما كان "يزيد" يُمهد نفسه للدخول من البوابة لمحهم بـ طرفهِ، أوفض بسرعة يدخل بعدما أيقن بوقوع حدثٍ عظيم.. فـ اجتذبهُ صوت الجلبة وصهيل الخيول الذي تداخل مع بعضهِ البعض، ركض نحو الأسطبل يلهث ويتنفس بصعوبة بالغة، حتى تخشبت ساقيهِ في محلهما، وتجمدت الدماء في عروقهِ من هول الصدمة، صحى بداخلهِ ذكريات اعتقد إنه طمسها، هاجمتهُ بقوة.. تلك المشاهد القاسية التي عايشها منذ شهرين، موت "رغدة" بين يديهِ، وحياتهِ التي تعرضت للخطر من طرفٍ غير معروف، حياتهِ التي انحصرت في الشعور بالذنب من أجلها.. كل ذلك مضى أمام عينيهِ بشكلٍ خاطف گشريط سينمائي، وبقى عاجزًا ضعيفًا.. لا يدري ماذا يفعل.
خرج إسمها من بين شفتيهِ متقطعًا :
- مـ... ملك!
ودنى بخطوات مرتبكة، انحنى عليها وأدار جسدها بـ كفيهِ المرتعشين ليستكشف موضع إصابتها التي نتج عنها كل ذلك النزيف المنهمر، وصاح فيها لـ تفيق بنبرة راجية :
- مـلك! فوقي
دخل "يونس" هرعًا على صوت أخيهِ، امتشج صوتهِ بلهثٍ مضطرب.. وبدون وعي دفع "يزيد" بعيدًا عنه مُطيحًا به، وجثى على ركبتيه وهو يرفع جسدها عن الأرض نحوه، وهدر مناديًا بذعرٍ شديد :
- مــلك!!
تلثمت يداه بالدماء، لـ ينبثق أمام ناظريهِ نفس مشهد الحلم الذي رآه بالأمس، فـ انقبض قلبهِ كل انقباضة وانقباضة أعتى من الأخرى.. وضرب على وجنتها كي تستجيب له، فتحت عيناها المغلفة بالثقل، ومن بين شفتيها التي تلونت بـ زُرقة مُخيفة ختختت بصوتِ ضعيف متقطع وهي ترتجف بين يديهِ :
- بـ.. آ.. بـردانة ، آه
فـ نزع عنه سترتهِ بسرعة وبصورة خاطفة و :
- حالًا، حالًا هتدفي
وطوّقها بسترتهِ وهو يضمها إليه أكثر صائحًا بنبرة صادحة رجّت الأجواء :
- هات العـربية قدام الأسـطبل بـسرعة يايـزيد، بـسرعة
هرع "يزيد" متعجلًا حتى كاد يسقط على وجهه، بينما ضمها "يونس" أكثر إليه وقد بدأت الدموع تتجمع في عيناه :
- أنا آسـف، مكنش ينفع أمشي وأسيبك هنا، حـقك عليا
بعينان مشوشتان كانت تنظر إليه بعتابٍ قتلهُ، وشددت بأصابعها الباردة على يدهِ وهي تتآوه بصوتٍ مكتوم، كافحت لـ تمد أصابعها نحو وجهه تلمسه علها المرة الأخيرة، فـ همّ يُقبل كفها ويُغرقهُ تقبيلًا حتى تغلف بدموعهِ الساخنة، ونظر لها من جديد وهو يقول من بين نشيجهِ المتألم :
- لسه بدري ياملك، لسه في حاجات كتير أوي معملتهاش ليكي.. أرجوكي متسيبنيش
بين ثانية وأخرى كانت عيناها تنغلق، فـ هزّ رأسها ليُحييّ إفاقتها من جديد راجيًا منها ألا تستسلم لـ للموت :
- ملك أنا علمتك تكوني قوية، كوني قوية عشاني، عشانا.. أرجوكي ياملك
حطّ الثقل على جفونها وثقلت رأسها قليلًا، فـ أصابهُ هلعٍ أكبر وأقوى وهو يهزها برفق ويصيح بـ :
- ملك متستسلميش، أوعي تغمضي عينك، ملك كلميني، فـوقي وردي عليا أرجوكي!.. متعمليش فيا كده، أنا مش هـتحمل أعـيش الوجع ده تاني أرجـوكـي، مــلك..
عاد "يزيد" وصرخ فيه وهو يترجل من السيارة و:
- يــلا يـايـونس
ارتخت يداها وسقطت على الأرض، وخمد جسدها كليًا بين ذراعيهِ، ازداد شحوبها وكأنها ضوءٍ انطفأ.. فـ صرخ "يونس" صرخة مُدويـة خرجت من أعماقهِ المُتمزقة :
- مــــــلـك!!
تعليقات
إرسال تعليق