رواية دمية مطرزة بالحب الفصل العشرون 20 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل العشرون 20 بقلم ياسمين عادل |
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل العشرون 20 بقلم ياسمين عادل
لا سلامًا على من إستهلكونا حتى أهلكونا .. ولا طبتم ولا طاب الحديث عنكم، لا دمتم بخير ولا سامحكم الله.
__________________________________________
ظلت "ملك" لوقت طويل تحاول النوم من جديد، ولكن الساعات النهارية التي قضت معظمها نائمة قد استولت على حصتها من الليل، بقى لها فقط بعض الألم الذي لا يزول وإن تناولت له الأقراص المُسكنة.
ظلت عيناها متعقبة قرص القمر الكامل المُنير في ليلتهِ الأربعة عشر من الشهر الهجري وهو يتوسط كَبد السماء القاتمة من خلف زجاج الشرفة المغلق، تفكر في حديث "كاريمان" معها عندما أفصحت عن شكوكها حول "غالية".
حتى الآن لم تستوعب "ملك" الأمر، وظلت تستعيد العبارة في آذانها العديد من المرات علها تصدق في مرة منهن.
"غالية هي اللي قتلت بنتها، صحيح هي كانت قاصدة يونس لكن ربنا عاقبها وجت في هانيا"
كانت "كاريمان" مُتأثرة للغاية وهي تحكي عن "هانيا" التي لم تشبه والدتها قط، لم تكن قاسية القلب أو حادة الطباع، كانت رقيقة وديعة، وجودها گالنسمة التي تُلطف حرارة أجواء الصيف المشمس.
تململت "ملك" في فراشها وحاولت أن تعتدل في جلستها، حتى جلست مستقيمة.. اشتدت عليها عضلات ظهرها وساقيها وأحست كأن ضربات تُضرب عليهم.. ولكنها لم تهتم، أصرت حتى وضعت قدميها على الأرضية.. ثم كابدت العناء وهي تحاول الوقوف على قدميها، صرخت صرخة مكتومة من فرط الألم وتركت جسدها يقع على الفراش، لم تتحمل الألم والوخزات المميتة التي راحت تنغز قدميها، تنفست بتسارع وهي تمدد ظهرها على الفراش وقد بدأت تحس بالألم في ذراعها المكسور أيضًا.. وقررت ألا تكرر فعلتها الآن، فـ هي ضغطت على نفسها بشكل مفاجئ ولم تُهيئ جسدها لذلك من قبل.
نظرت للسقفية، وعادت قصة "يونس" تترنح في عقلها گالأرجوحة، ولم تكفّ عن التفكير بها.. فقد شغل الأمر عقلها بشكل لا يمكن وصفه.
...........................................................................
صــباح خريفي آخر..
وأخيرًا توقف "يونس" بسيارته بعد طريق طويل سار به مصطحبًا "إبراهيم" معه قِسرًا للمشفى، كان رافضًا وبشدة، ولكن أمام إصرار "يونس" الشديد أضطر أن يخنع معتقدًا إنه مُجرد تعرض للآشعة والفحوصات كما أبلغهُ "يونس".
نظر "إبراهيم" لواجهة المشفى وفي قلبه غصة، يشعر بـ انقباض قوي يعصف به.. كأن هذه البوابة الضخمة تؤدي إلى نهايته المحتومة والتي يتوقعها في أي وقت بعد أن علم حقيقة مرضهِ الخطير.. تنهد وهو يغمض جفونهِ وقال :
- أما أشوف أخرتها معاك يايونس
تأهب "يونس" للترجل عن السيارة و :
- خير، كل خير ياعمي.. يلا بينا
كانت المشفى الخاص گالفندق الفاخر وليست مشفى تضم بين حجراتها مرضى ومصابين.. نظر "إبراهيم" حولهِ مبهورًا وأردف بصوت منخفض :
- أنا جاي اتفسح ولا جاي أعمل آشعة وتحاليل!!
- هترتاح ياعمي، متقلقش
نظر "يونس" صوب الإستقبال ثم توجه نحوه، نظرت إليه تلك الفاتنة بنظرات جذابة وهي تبتسم، وبادرت هي :
- أهلًا مستر يونس
فـ ابتسم مبادلًا إياها الودّ الغير مقصود و :
- أهلًا، في حجز بأسم إبراهيم الجبالي
- آه
ثم نظرت للحاسوب و :
- دكتور مُنصف في انتظارك في غرفته الأول قبل ما ننقل المريض لغرفته
وزع "إبراهيم" نظراتهِ عليهم قبل أن يتسائل :
- غرفة لأيه بالظبط؟
- ثواني ياعمي
ثم أخرج هاتفه و :
- تواصلي مع دكتور منصف وبلغيه إني جيت
رفعت سماعة الهاتف وهي تخفض نظراتها التي شبعت من النظر المُعجب إليه، بينما تصفح هو هاتفه يبحث عن أحد الأرقام لشخص ما يحتاجه الآن.. حتى قطعت الفتاة تركيزه قائلة :
- أتفضل الدكتور في انتظارك
طوقّه "يونس" بذراعه و :
- يلا بينا ياعمي، أنا حجزت لك غرفة ترتاح فيها لحد ما نخلص اللي ورانا هنا.. هتفضل فيها مؤقتًا
دلف معه للمصعد الكهربي وقادهُ نحو غرفة الطبيب مباشرة، والذي كان ينتظرهم منذ الصباح بعدما أبلغه "يونس" بتفاصيل الحالة أمس.
جلس "إبراهيم" وقد شعر بشئ مريب، حتى أفاض الطبيب وبصراحة مطلقة :
- متقلقوش، مجرد ما نتوصل لنتيجة التحاليل والآشعة ونعرف المرحلة اللي احنا فيها، هنبدأ فورًا بالعلاج الكيماوي
وقف "إبراهيم" متشنجًا فجأة وهو ينظر بـ اتجاه "يونس" الذي خدعه قائلًا إنها مجرد فحوصات للإطمئنان على صحته وإلى أي مرحلة وصل.. رمقه مذهولًا ونظراته مزجت بين الغضب والضيق وهو يردف بتعند واضح :
- كيماوي إيه يايونس؟ مين قالك إني هتعالج كيماوي!! أنا مش هموت نفسي بنفسي
فـ تدخل الطبيب بدوره لتوضيح دول العلاج الفعال في حالات الأمراض السرطانية :
- العلاج ده أسلم حل ياأستاذ إبراهيم، متهيألي إنك وصلت لمرحلة متأخرة مش هينفع معاها تدخل جراحي، لازم علاج كيماوي ونبدأ في الحال
- لأ
قالها بنبرة مرتفعة متشددًا برأيه، فـ بادر "يونس" موجهًا حديثهِ للطبيب :
- ممكن تسيبنا دقيقتين يادكتور
أومأ "مُنصف" رأسه وهو يسير نحو باب الخروج، وقبل أن يبدأ "يونس" مناقشتهِ وإقناعهِ كان "إبراهيم" يقطع عليه هذا الطريق :
- ريح نفسك، أنا طاوعتك وجيت هنا.. لكن علاج وقاعدة في المستشفى مش هيحصل
فـ دخل" يونس" له من ثغرته الوحيدة، نقطة ضعفهِ التي لن يقوَ على مقاومتها، وقال مستنجدًا بـ ذكر "ملك" :
- وملك ؟ عايز تسيبها لمين! ليـا!!
رمقه "إبراهيم" بنظرة حزينة نجمت عن شعوره بالذنب العظيم حيالها بعد كل ما عاشتهُ على مرأى ومسمع منه، وقبل أن يجيب كان "يونس" يقاطعه متابعًا بنبرة معاتبة :
- أنت أولى تكون جمبها ياعمي، بلاش تضطرني أعمل حاجه ممكن تزعلك مني
قطب "إبراهيم" جبينه بـ حزم بعد تهديد "يونس" له و :
- انت بتهددني ولا إيه يايونس!
فـ لطف "يونس" من نبرته وهو يجيب :
- آه، لو مبدأتش علاج ياعمي أنا هقول لملك على كل حاجه ، هقولها إنك بتعاني من سرطان في مراحل متأخرة ورافض حتى محاولة العلاج.. هخليها تعيش الوجع مرتين، وجع الخوف، ووجع الفقد.. والأتنين أسوأ من بعض
ثم تنهد وختم قوله بـ :
- سامحني، بس انت مسبتش حل تاني ليا أقدر ألجأ ليه.. القرار في إيدك ياعمي
كل كيانهِ وتفكيرهِ الآن مُنصب على ابنته الوحيدة، فلذة كبده التي لا يملك غيرها.. تلك التي لم ترى سوى الظلم والقهر على يديه قبل أيادي من يُدعى زوجها، والتي حرمها أبسط حقوقها في الحياة مُدعيًّا الحفاظ عليها، بينما هي عُقدتهِ النفسية التي ترعرعت في قلبه معها، في كل يوم تكبر هي، تتضاعف عقدته خوفًا من تشبهها بتلك الخائنة التي دفنها بيده.
لم ينفع ندمه، وكيف ينفع بعد إفنائها، بعد إستهلاك روحها اليافعة لتصبح مجرد قلب يحمل بداخله مقبرة.
............................................................................
إنك ترى الآن بصورة صحيحة، كأنه مشهد تعودت عيناك على رؤيته مع أطفال صغار، ولكن الآن يحدث مع ذلك الطويل الفارع صاحب البنية الجسمية القوية.
كانت "كاريمان" تجذب "يزيد" من أذنه بأصبعيها متعمدة إيلامه، بينما هو منحني عليها برأسه وهو يتآوه متألمًا والإنزعاج باديًا عليهِ.
ضربت "كاريمان" ساقهِ بطرف عكازها وصاحت بجوار أذنه :
- بعد كده لما تحب تهرب من نينة، أعرف إنها هتقدر تطولك تاني.. سمعتني ياإبن حسن
حاول "يزيد" أن يتخلص من أصابعها الحادة التي تمسك بأذنه وهو يبرر :
- شغل يانينة شغل، هو أنا هفضل مقطوعلك طول اليوم
فـ صاحت به وهي تهز رأسه :
- Kes sesini. "أخـرس"
إيه ألفاظ الشوارع دي ياولـد، مقطوع ومش مقطوع! أنت اتربيت فين!! أبوك حسن كان سايبك في الشارع edepsiz " قليل الأدب "
فـ ألصق "يزيد" يديه سويًا وهو يعتذر منها كي تتركه :
- özür dilerim "أعتذر"
تركته وهي تنظر إليه بصرامة جمعت بين جمالها وحنوّها وامتعاضها من تجاهله الدائم لها.. نظرت لـ أذنه بينما كان يفركها بتألم و :
- أنت لازم تتجوز، مينفعش تفضل صايع كده كل يومين مع واحدة، دي مش أخلاق
قهقه "يزيد" بصوت مرتفع وكادت عيناه تدمع من فرط الضحك، ثم نظر نحوها ومازالت نوبة الضحك تعتريه :
- أتجوز!! تـاني
رمقتهُ بـ احتقان بينما كان يتابع هو نوبة الضحك الهيستيري التي لم يستطع التغلب عليها و :
- كنت حاسس إنك هتقولي كده والله
وفجأة توقف عن الضحك كأنه لم يضحك أبدًا، ولم يترك على وجهه أي أثر لذلك وهو يقول بجدية شديدة :
- أنسي يانينة إنك تورطيني ورطة زي دي، أنـسي
استمع "يزيد" لصوت "يونس" بالخارج، فـ دنى "يزيد" من جدته التي كانت على وشك الصياح فيه ووضع يده على وجنتها يداعبها ويدللها وهو يقول بصوت منخفض :
- نينة ياحببتي ، ياعسلية أنتي.. بلاش تفتحي سيرة الجواز دي قدام يونس، هه
دفعت يده عنها وهي تقول :
- عشان عارف إنه الوحيد اللي بيأثر عليك، مش كده!
دلف "يونس" إليهما وهو يقول :
- Günaydın "صباح الخير"
ومرّ من جوار شقيقه "يزيد" الذي همس له :
- ما تتكلم عدل يابني بقى! محدش قواها علينا غيرك
انحنى "يونس" يُقبّل يدها و قال بصوت منخفض :
- معايا ضيفة، صاحبة ملك.. جبتها عشان تشوفها وتتكلم معاها وتفك عنها شوية
أومأت "كاريمان" رأسها بتفهم و :
- كويس، هي محتاجة حد قريب منها
حمحم "يونس" قبل أن ينادي :
- آ... أنسه نغم!
دخلت "نغم" بترقب وهي تنظر حولها بتوتر كونها تدخل لأول مرة إلى مكان گهذا.. ضبطت تعابير وجهها وانفعالاتها وهي تبتسم في وجه تلك الوقور الجميلة و :
- صباح الخير
فـ بادلتها "كاريمان" الإبتسام و :
- صباح النور، تعالي ياحببتي.. نورتي
صافحتها "نغم" بحرارة و :
- رينا يخليكي ده نور حضرتك
ثم سألت بتلهف :
- ملك عامله إيه دلوقتي ؟؟
ابتعد "يزيد" قليلًا عنهم وهو لا يطيق هذا الحديث الذي يراه متكلفًا أكثر من المعتاد، فـ لحقت به "كاريمان" قبل أن ينصرف من أمامها خلسة وقالت :
- يزيد! تعالى هنا
عض "يزيد" على شفتيه بسخط والتفت إليها، بينما قالت هي ونظرات الجميع عليه هو :
- أنا لسه مقولتش تمشي، فاكرني مش شيفاك!
فـ شبك "يزيد" ذراعيه خلف ظهره وقال بـ اقتضاب :
- ماشي
أشارت نحو ذراعيه بعكازها و :
- نزل إيدك دي وانت بتكلمني
ابتسمت "نغم" بدون أن تُصدر صوتًا ليلمح هو طيف تلك الضحكة التي أججت من غيظه، بينما أنضبط هو في وقفته و :
- حاضر
فـ قرر "يونس" أن يسحب "نغم" من جلسة التأديب تلك خاصة بعدما رأى نظرة الشماتة في عيناها كي لا ترى شقيقه في حالة مزدرية أكثر من ذلك :
- طب أنا هطلع نغم عند ملك وهنزل تاني
فـ فرك "يزيد" ذقنه وهو يؤيد شقيقه :
- ياريت، بسرعة عشان مش قادر
اصطنع "يزيد" إبتسامة وهو ينظر لجدتهِ.. فـ رنّ هاتفه فجأة، أخرجه متعجلًا وأجاب على الفور :
- ألو، أيوة ياسيف
حدقت عيناه فجأة وقال ببعض الإنفعال :
- إيــه!! أمتى ده حصل!!.. ومين كسر الخزنة بتاعتي!
ثم نظر لـ "كاريمان" و :
- مصيبة يانينة، مصيبة
وتحرك من أمامها مسرعًا، فـ صاحت فيه :
- ياكـــذاب
خرج من غرفة الجلوس بسرعة بينما كان "سيف" يتحدث إليه متعجبًا و :
- خزنة إيه يامستر يزيد! بقولك متنساش معاد الـ meeting النهاردة مع Herr Frank "سيد فرانك"
أخفض "يزيد" صوته و :
- خلاص فهمت ياغبي، كنت في مأزق وبخرج نفسي منه
كان "خديجة" تمرّ من أمامه، فـ أشار لها قبل أن يعاود متابعة مكالمتهِ :
- فنجان قهوة مظبوط على كيفك والنبي ياديچا
- حاضر من عنيا
فتح "يونس" الباب بعد أن طرق عليه، نظر بنصف عين لئلا تكون في وضع لا يسمح له برؤيتها، ولكنها لم تكن موجودة على الفراش، انقبض قلبه وهو يفتح الباب على مصرعيه وصاح مناديًا :
- مــلك!!
- أنا هنا
كانت واقفة أمام الشرفة على ساقها مستندة على عكاز أرسلت الجدة "كاريمان" لإحضاره لها منذ البكور كي تعتاد على الوقوف.. تنفس "يونس" ببعض الراحة وهو يدنو منها موفضًا وسأل بقلق :
- أنتي واقفة على رجلك ليه؟ مش الدكتور قالك ترتاحي!
وأمسك برسغها بينما كان القلق عليها في عيناه جليًا، توترت وهو يمسك بيدها هكذا، ولكن النظر في عيناه العسلية في ضوء النهار الساطع هكذا أربكتها وجعلتها تنسى أي شعور آخر وهي تجيبه :
- أنا زهقت من السرير، ونينة بعتت جابتلي عكاز عشان أبدأ اتحرك شوية وأمرن رجلي على المشي
فـ أجلسها وسحب العكاز من يدها لتستند عليه بدلًا منها وقال :
- أقعدي طيب، في حد عايز يشوفك
- مين؟
فـ صاح "يونس" :
- أدخـل
أظهرت "نغم" رأسها أولًا، فـ كادت "ملك" تنتفض من جلستها لولا كفيّ "يونس" اللذان كانوا على كتفيها لمنع أي حركة متهورة كأنه كان متوقع ذلك منها، في حين أن "نغم" أوفضت نحوها وعانقتها متحاشية أي ضغط عليها كي لا تؤلمها، بينما تنفست "ملك" رائحة صديقتها فـ ارتاحت قليلًا و :
- آآه يانغم، وحشتيني أوي
رفعت "ملك" بصرها الممتن نحوه و :
- مش عارفه أشكرك ازاي
- متشكرنيش، أنا عارف إنك كنتي محتاجاها
ثم تحرك ليغادر الغرفة تاركًا لهم مزيد من الحرية وأغلق عليهم الباب، فـ أردفت "نغم" على الفور :
- كلمني من تليفون عمو إبراهيم سألني عن العنوان وطلب مني ياخدني عشان آجي أقعد معاكي شوية
أشرق وجه "ملك" قليلًا رغم بروز شحوبه وضعفه وهي تنظر لرفيقة عمرها الوحيدة وأردفت :
- الحمد لله إنك جيتي، الحقيقة نينة كاريمان مش محسساني بالوحدة خالص، بس انا حاسة إني محتاجة حد مني
وأمسكت يدها تضغط عليها :
- عايزة أعيط ومش عارفه، مخنوقة من جوايا وفي حاجه كاتمة على صدري.. حاسه إني هموت
فـ وبختها "نغم" وقد تقلصت تعابير وجهها :
- بعد الشر متقوليش كده
ومسحت على وجهها برفق :
- كل ده هيعدي، ربنا مش هيسيبك لوحدك
ثم أخفضت صوتها وهي تتابع :
- أنا حاسه إن ابن عمك عمره ما هيسيبك في كل من غير لما يساعدك.. هو الوحيد اللي هيجيبلك حقك بجد
نظرت "ملك" في الفراغ وهي تتذكر حديثهم بالمشفى عندما ساعدها لتفيق كي يلقنها ما ستقول، حينها وعدها وأقسم إنه لن يترك حقها بدون ردّ قوي يرضيها، لا تعلم لماذا هذه الثقة المترسخة في شعورها تجاهه رغم تركه لها آخر مرة، ولكنها تحس إنه جدير بها.. جدير بثقتها.
..............................................................................
انتهت "خديجة" للتو من إعداد الغداء كي تتناول "كاريمان" بصحبة حفيديّها أطيب الأصناف التي يحبونها، ثم بدأت تُعد لصنع فنجان من القهوة.. دلفت "نغم" بـ استحياء وبخطوات مترددة، وقالت :
- ممكن أطلب من حضرتك حاجه
فـ ابتسمت لها "خديجة" بسعة صدر و :
- أتفضلي طبعًا
- محتاجة أعمل لبن بالبلح والعسل لـ ملك لأنها بتحبه جدًا
وقبل أن تقول "خديجة" أي رد كانت "كاريمان" تناديها، فـ ابتلعت "خديجة" ابتسامتها الواسعة وتبدلت لأخرى رسمية وهي تقول :
- معلش لازم أشوف الهانم الكبيرة
نظرت "نغم" للقهوة وعرضت عليها المساعدة :
- طب انا هعمل القهوة دي بالنيابة عنك لحد ما تيجي تديني اللبن والعسل
- متتعبيش نفسك
فـ ألحت "نغم" على مساعدتها بحسن نية حتى وافقت :
- مفيش تعب أبدًا، أنا بحب القهوة وبحب أعملها بأيدي
- خلاص ياستي مش هكسفك، أعمليها.. بس خلي بالك تبقى مظبوط
فـ تحمست "نغم" و :
- حاضر
بدأت تُعد القهوة بحب، كما تفعل كُل شئ بـ حُب.. هذا ما يجعل من كل الأشياء أحلى وأجمل منها ومعها، فتاة گالربيع في طلتها، گالصيف في بهجتها، وگالشتاء في عِنادها وقسوتها.. جمعت من الخصال النقيضين، تلك الملامح البريئة البسيطة التي تختفي خلفها المثابرة والقوة، لكنها ضعيفة رخوة تستند على نفسها.. فهي ملاذها الأول والأخير.
كان "يزيد" يجلس على مقعد جدتهِ بالحديقة الصغيرة مهتم ببعض الأعمال التي يتابعها عبر الحساب الشخصي له.. فـ لفحت رائحة القهوة أنفه، على الفور التفت برأسهِ ليجد "خديجة" تقترب منه وتُقدمها له.. فـ تشوق لتذوقها وهو يقول :
- إيه الريحة دي ياديچا! للدرجة دي مزاجك رايق
فـ ابتسمت وهي تضعها على الطاولة و :
- بألف هنا
ثم غادرت على عجلة.. تناولها "يزيد" وهو يجيب على مكالمة "سيف" و :
- ها طمني، وصل؟
صمت لحظات وهو يرتشف أول رشفة ثم :
- خلاص ساعة ونكون هناك
وتابع ارتشافها رغم سخونتها التي ألهبت صدره.. كانت لذيذة بشكل لن يفهمه سوى عشاق القهوة ومُدمنيها، استنشق رائحتها الذكية وهو يشرب منها رشفة كبيرة، ثم أردف :
- مش طبيعية، في قهوة كده في الدنيا!
نهض وهو يكاد يُنهيها، ودخل ليجد "يونس" في وجهه.. فـ ذكّره و :
- يلا بينا
- يلا
دنى منه خطوة وسأله بصوت منخفض :
- عملت إيه مع عمي؟
أطرق "يونس" رأسه بضيق وأجاب :
- خلاص بقى في المستشفى والعلاج بدأ من النهاردة، بس الدكتور قالي نسبة الخطر عدت ٨٠ ٪
تجهم وجه "يزيد" فجأة ، حيث كان ينتظر خبر يتأمل به.. لا يريد فقد الشعور بإنه سيكون بخير، لا يرغب في تخيل فقدانهِ.. فـ طالما كان له الأقرب حتى من والدهِ "حسن"، والآن هو على وشك خسارته.
أشاح "يزيد" برأسه قبل أن ينظر لما بقى من قهوتهِ، ثم أردف :
- هدخل الفنجان ده وآجي عشان نمشي
واتجه صوب المطبخ، كان يلعق آخر ما بقى من صبابة قهوتهِ حتى أنهاها كاملة.. لم ينتبه لوجود "نغم" خلفهِ بجوار المُبرد ، فـ ترك الفنجان وخرج على الفور، بينما كانت هي تراه وهو يلعق الفنجان حتى آخره بنهم شديد.
كتمت أنفاسها حتى خرج، ثم أطلقت شهقة خافته وهي تهمس لنفسها :
- أوف!! هي القهوة كانت عشانهُ هو!!
عضت على شفتها السُفلى، ثم دعت :
- يارب ما تكون طنط خديجة قالت إني أنا اللي عملتها!
وتحركت نحو الموقد كي تضع الحليب ليدفأ، وبالها مازال هناك في نفس المنطقة، منشغلًا بأمور الإمتحانات الخاصة بـ نصف العام الدراسي والتي تقررت بعد شهر ونصف من الآن.
...........................................................................
في هذا البناء الغريق الفاخر.
أحد الفنادق المصرية الشهيرة المُطلّة على ضفاف النيل.. وصل "يونس" بسيارتهِ بعد أن استبقهُ "يزيد" لمقابلة العضو المُنتدب الألماني "فرانك" ووضع أسس هامة تضمن إتفاقية ناجحة.
ظل في سيارتهِ بعض الوقت يتحدث في هاتفهِ، لم ينتبه طوال الطريق إنه مُراقب بسبب انشغال عقلهِ بأمور كثيرة حطت عليه بالفترة الأخيرة، وهو الذي عاش انعزال تام عن البشر دام لأكثر من عام ونصف بعد وفاة زوجته.. ها هو الآن يعاود التخالط معهم وبقوة فرضتها الظروف عليه، بداية من مسؤولية الإعتناء بـ "ملك" گأمانة، ثم الدخول في مشكلاتها، وأخيرًا العودة للظهور من جديد بأرض مجموعة "الوطنية" التي لم يشعر يومًا بـ انتماءه لها، رغم قدراته الفائقة العجيبة في إدارتها.. إلا إنه كان يشعر بإنهُ ليس مكانهِ.
كانت "غالية" تنظر بـ اختلاس نحو سيارته وهو بداخلها لم يترجل منها بعد.. وما أن فُتح بابها حتى استعدت مُشهرة سلاح مزود بكاتم للصوت، وبدأت تتأهب لإطلاق ناري مُصوب نحوه كي تنهي الأمر الذي تركتهُ في مُنتصفهُ.
نظر لها السائق عبر المرآه وحذر عليها بشدة :
- ياهانم بلاش الطريقة دي، قولتلك في ١٠٠ طريقة تانية نخلص بيها منه
فـ هدرت به وهو تنظر نحو "يونس" الذي هبط توًا عن سيارته :
- أخــرس انت، أنت السـبب في كل ده.. لو كنت خلصتني منه يومها كان زماني مرتاحة وبنتي في حضني
صوبت السلاح نحوه، ضيقت إحدى عيناها مُحاولة إصابة الهدف هذه المرة.. وهمست بحقد شديد ملأ صدرها في هذه اللحظة الفاصلة :
- المرة دي لازم تصيب..!!
تعليقات
إرسال تعليق