رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة واربعة 104 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة واربعة 104 بقلم ياسمين عادل |
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة واربعة 104 بقلم ياسمين عادل
"باتت گالقُنبلة الموقوتة، وشيكة الإنفجار"
________________________________________
هذه التغيرات النفسية التي طرأت عليها جعلت من حالتها الجسدية أيضًا هزيلة وضعيفة. لا تستطيع تجاوز الصدمة، وكل ما يشغل عقلها المتعب هو التفاصيل التي علمت بشأنها. خيانة والدتها لأبيها وإثبات ذلك بإكتشاف حملها رغم غياب "إبراهيم"، قتل والدها لها والثأر لشرفه في التو واللحظة، والكذبة التي عاشت بداخلها كل تلك السنين، وهي تبحث عن سراب لا وجود له. أنزوت "ملك" على نفسها وعاشت بداخل ذلك الإكتئاب ليومين متتالين، كل ما يفعله "يونس" لإنتشالها من تلك الحالة كان بدون جدوى، هذه المرة تختلف عن كل مرة، هذه المرة أثقل الحمل كاهلها، للحد الذي لا تقدر على نصب ظهرها المحني من جديد.
جلست "ملك" بالحديقة تنظر للبوابة الفسيحة، كأنها تنتظر شيئًا لا تعرفه، والكثير من الأمور التي تفكر فيها تتداخل في رأسها. أحست بيده التي وضعت على كتفها، فـ رفعت بصرها نحوه لتراه يرنو إليها بعاطفية شديدة :
- صباح الخير.
فـ أخفضت بصرها عنه لتقول :
- صباح النور.
جلس بالقرب منها وعرض عليها بتحمسٍ :
- إيه رأيك نفطر برا النهاردة؟
لم تنظر حياله بتلك العيون الفاقدة للأمل، ولم تريه نظرات الخيبة التي تحاول أن تواريها - رغم إنه يراها بوضوح -، وأردفت بـ خفوتٍ صاحب نبرتها :
- مش عايزة أخرج من هنا، مش عايزة أشوف الناس.
سارت أصابعه تختبر نعومة يدها المسنودة على المقعد، مثيرًا فيها تلك النزعة العاطفية التي لا تقوَ على السيطرة عليها في حضرته، وكرر فعلته ملتزمًا الصمت، حتى يتيح الفرصة لمشاعرها النائمة بالإستيقاظ والتأمل من جديد. التفتت عيناها تنظر نحوه، وسألته بفضول وقد استحوذ الأمر على عقلها :
- بابا مقالكش أي حاجه بخصوص الموضوع ده قبل ما يموت؟.
وكأن سؤالها المباغت شلّ فكرهِ، لكنه لم يظهر ذلك لها على الفور و :
- لأ، مجابش.
تبينت الحيرة في عيناها الحزينتين وهي تهتف :
- إزاي!.. معقول قال ليزيد!؟.
انفتحت البوابة لتمرق سيارة "يزيد"، فوقفت "ملك" عن جلستها مسرعة كي تستقبله بنفسها وتسأله عما يشغلها، مضى "يونس" من خلفها يخشى تلك اللحظات بشدة، إنها الإنتكاسة التي ستضرب الجرح في عمقهِ فتضاعف من نزيف روحها. ترجلت "نغم" عن السيارة والتقت بـ "ملك" في المنتصف بإبتسامة مترقبة :
- صباح الخير يالوكة، طمنيني عنك.
لم توليها "ملك" محطّ أنظارها، وأجابت بدون إنتباه :
- كويسة.
وتركزت عيناها صوب "يزيد" وهي تردف بـ :
- عايزاك في حاجه يا يزيد.
دنى منها بعدما أغلق السيارة، وعيناه متعلقة بنظرات شقيقهِ القلقة، ثم هتف بـ :
- أتفضلي.
وأثناء سؤالها :
- أنت كنت عار.....
وقبل أن تختم سؤالها، كانت تلك الضوضاء تقطع حديثها لتنتبه إلى البوابة، حيث ظهر "ربيع" وهو يتشاجر مع أحد أفراد الأمن وقد تعالى صياحه الهادر :
- ياعم أنا لسه شايفه داخل قدام عنيا، بقولك دخلني ليه.
ارتعبت "ملك" مع رؤيته هنا من جديد، حيث تجددت ذكريات مُقيتة تكره إستعادتها في ذهنها، وظلت عيناها عليه حتى رآها وصاح :
- يابنت خـالتـي، في حكاية ضـروري أقـولك عليها.
إصراره المستميت رغم تصدي أفراد الأمن له جعلها تتشكك في الأمر، مما دفعها لتمنع "يونس" الذي عقد العزم على تأديبه تلك المرة، ووقفت أمامه قائلة :
- ثواني يايونس.
فـ انفعل "يونس" عليها وهو يظهر رفضه لمواجهتهم :
- ثواني إيـه! متقوليش هتقابلي الحيوان ده!؟.
حاولت أن تجعله يخنع ويتراجع عن موقفه، فـ هتفت بـ :
- انت موجود جمبي وهو مش هيقدر يعمل أي حاجه.
وسارت نحو البوابة تُقدم قدم وتؤخر أخرى، حتى أصبحت على بعد مسافة مقبولة تسمح لها بسماعه، وهتفت متسائلة :
- عايز إيه ؟.
تجهمت تعابيره المستنكرة لمقابلتها الجافة له و :
- كده من على البوابة، حتى عيب الناس تسمع فضايحنا.
كاد "يزيد" يتدخل ليزداد الأمر سوءًا، فلم يجد سوى "نغم" تسد عليه طريقه لتهمس :
- لأ يا يزيد، مش هتتهور تاني.
في اللحظة التي سمح فيها "يونس" لذلك الحثالة بأن يدخل من عتبة البوابة، وأشار إليهم لإغلاقها من خلفه، حينها قبض على قميصه يجتذبه بعنفٍ مهين ليصيح فيه :
- فضايح إيه ياابن تفيده اللي جاي تسمعهالنا.
زجره "ربيع" بحزمٍ خائر، وهو يدفع ذراعه عنه :
- عيب كده ده انا في مكانكم، وبعدين الكلمتين دول لبنت خالتي الله يرحمها.
فـ غمغم "يزيد" بغضبٍ متستر عليه بصعوبة :
- الله يحرقها.
ما زالت "ملك" تنظر إليه بترقب لما سيرويه عليها، وحينما التفتت عيناه تنظر إليها أخفضت بصرها الذي لا يحبذ رؤيته أبدًا، وسألت بـ اقتضاب :
- عايز تقول إيه ياربيع؟.
تلاعب بتعابير وجهه المزيفة، مُظهرًا لها مدى سذاجتهِ الخدّاعة وهو يهتف بـ :
- إحنا اتظلمنا ياملك، اتظلمنا مرتين، مرة لما أبوكي قتل خالتي من غير ما يرجع لأهلها ويدريهم باللي حصل، ومرة تانية لما فضلوا اللي حوالينا عارفين ومخبيين علينا، واحنا لينا سنين بندور على ريحتها.
قطبت جبينها وهي تستمتع لعبارته التي بدت گالألغاز رغم وضوحها :
- بتقول إيه! أنا مش فاهمة منك حاجه.
ولكن "يونس" تفهم مقصدهِ الخسيس من الوهله الأولى، واندفع بإنفعالٍ شديد ليدحره بعيدًا عن المنزل، قبل أن يتحقق مبتغاه الدنئ. أطبق على ذراعهِ يغرز فيه أصابعهِ بقوةٍ مؤلمة، ودحره أمامه وهو يزأر بـ :
- أمشي من هنا، مش عايز أشوف خـلقتك.
أزمع "ربيع" على أن لا ينصرف، قبل أن يصل إلى هدفه، فـ ظل يقاتل بكل قوة لئلا يتغلب عليه "يونس" وهو يدفع بالكلام من صدره :
- طالما عايز تبعدني عنها أوي كده يبقى اللي فكرت فيه صح، أنت وأخوك كنتوا عارفين ومتوانسين معاه في قتل خالتي، أنا هروح فيكم في داهيه.
لكمهُ "يونس" لكمةٍ جعلت فكيهِ يصطدمان ببعضهما البعض :
- ده انت شكلك خدت على الضرب وقلة القيمة.
صوتهِ الهادر جعل الأمن يتدخلون ليخلصون "ربيع" من قبضته قبل أن يقتلهُ، ما أهمه هو خروج ذلك اللعين من هنا الآن، قبل أن يصيب بلعنتهِ "ملك" ، ويفتح عليهم بابًا لن يغلق بسهولة.
ألقى به الأمن بالخارج، فـ استدار "يونس" إليهم ووجهه مخضبًا بحُمرة الغضب، حُمرة تحولت لبهتان مفاجئ، وهو يلمح تلك النظرات المحتقنة في عينيها، وكأنها تسأله هل تلك هي الحقيقة أم لا. توترت خطواتهِ البطيئة حتى وصل إليها، وقبل أن يفتح فمه بكلمة واحدة كانت تهتف بـ :
- كنتوا عارفين، عارفين ومخبيين عني، مش كده!.
لم يكن مدربًا كفاية للكذب عليها، ولا سيما حينما ينظر لتلك العيون التي تخرب توازنه، فـ تناوب "يزيد" الإجابة عنه، لـ يعفيه من ذلك العبء الثقيل :
- لأ مكانش يعرف ياملك.
فـ التفتت إليه، وتابعت سؤالها الذي بقى في منتصفه قبل ظهور "ربيع" :
- يبقى انت اللي عارف، مش كده!!.. كنت بشوفك مع بابا كتير زمان لما كنت بتيجي عندنا، يبقى السر كان معاك انت.
فلم يراوغها أو يحاول إدعاء عكس ذلك، بل اعتبره صمام الراحة الذي سيخمد بركانها قليلًا :
- آه كنت عارف.
اتقدت عيناها المحدقتين، وهي تسدد نظراتٍ غاضبة إليه، بينما كانت "نغم" في حيرة من أمرها، هل تكون معه أم ضده، هل تنصفه أم تخذله. وزعت نظراتها العاجزة بينهما، حينئذٍ تدخل "يونس" في الوضع المتأزم ليحلّه :
- مبقاش في فايدة من كل ده ياملك.. ده كان سر عمي الله يرحمه ويزيد مقدرش يفتح سيرة الموضوع.
فصرخت في وجوههم، حينما أحست بالعجز عن تفسير نفسها وأوجاعها أمامهم :
- كان حـقي أعرف، كان حـقي أعيش زي أي حد طبيعي من غير ما أشيل ذنب مش ذنبي.
لم يحافظ "يزيد" على الوتيرة الهادئة التي كان يتبعها، وانفلتت منه أعصابه گالعادة، فتقدم منها خطوة ليقول بحقد ملأ صوته :
- أسمعي ياملك، أمك خدت اللي تستاهله، لو أنا منه كنت قطعتها حتت ورميتها للكلاب تنهش في لحمها الرخيص.
فصرخت في وجهه غير متحملة سماع أكثر من ذلك :
- أخــرس.
وسألت بإحتدام :
- وانت بقى كنت عارف بس ولا ساعدته!؟.
اجتذبها "يونس" برفق محاولًا الفصل بينهما ، وقد بدأت الأوضاع تأخذ منحنى لا يروق له :
- أهدي ياملك وتعالى نتكلم جوا.
لم تهتم له، وعادت تسأل وعيناها عالقة به :
- رد عليا.
فلم يكترث بها، وأجاب بفتورٍ أجج من حميتها أكثر :
- تفرق معاكي في إيه؟
فكان جوابها صادمًا غير متوقعًا، وقالته بجسارةٍ وقوة :
- تفرق أوي، لو كنت شاركته يبقى هتاخد الجزاء اللي تستحقه يا يزيد.
بُهت "يونس" ناظرًا إليها بشدوه، وهتف بصوتٍ مصدوم :
- مــلك.
وكأن تيار الهواء الجارف قد عصف بكيانهِ المتزعزع - ليُزيد من إنهيارهِ المستور -، نظر إليها وكأنما يرى أمامهِ شبحًا لها وليست هي تلك الوديعة الرقيقة، ليست الدُميـة التي اعتاد رؤيتها. انجرفت مشاعر "يزيد" العدائية نحوها، لكنـهُ كافح بـ أضنى جهدهِ لئلا يُظهر ذلك لها، واكتفى بسؤالها :
- يعني إيه يابنت عمي؟!.. عايزة تبلغي عني مثلًا؟؟.
تشتت أنظارها بينه وبين "يونس" الذي يحدق فيها بصمتٍ مريب، وبدون أن تُهدر وقتها كانت ترد بجسارةٍ جديدة عليها :
- لو طلع اللي في دماغي صح، أنا هسجنك يا يزيد.
ثم انتقلت أنظارها نحو "يونس"، لتؤكد بدون ذرة تفكير واحدة في أي إعتبار آخر :
- هـسجنك.
تعليقات
إرسال تعليق