رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة وثلاثة 103 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة وثلاثة 103 بقلم ياسمين عادل
"في العمر لحظة، لن ترى فيها الدنيا كما كانت، ستتغير الألوان، وسيترأس الأسود قاعدة عينيك، لتجد الدنيا قد أغلقت أبوابها في وجهك."
________________________________________
توقف "يزيد" عن جلسته وحدقتيهِ مرتكزتان على تعابيرها المذهولة، متصلبة بدون حراك من مكانها، حتى تقدم منها "يزيد" وسحبها للداخل، وأوصد الباب عليهم قبل أن يهتف بتوجسٍ مرتاب :
- نـغم!. انتي إيه اللي نزلك من فوق؟.
ما زالت باهتة، أثر الصدمة عليها كان عتيًا لدرجة ألجمت لسانها عن التحدث، فقط ترنو إليه بتحديقٍ مذهول، مما دفعه لسؤالها مجددًا :
- سمعاني يانغم؟.
فخرج صوتها مبحوحًا بكلمة واحدة :
- إزاي !!!.
ذمّ "يونس" على شفتيهِ بنزق، وتدخل للتخفيف من حدة الصدمة عليها :
- الموضوع مش زي ماانتي فاهمة يانغم.
لم تنظر حتى حياله، وكأن ما يشغل بالها فقط أمر "يزيد" الذي يعلم بكارثة گتلك :
- انت كنت عارف كل حاجه ومخبي !..
أبعد عيناه عنها، وأولاها ظهره مجيبًا :
- أيوة، الموضوع ميخصنيش عشان أحكي عنه.
التفتت حوله لتكون في مواجهته، وهتفت بإعتراض :
- بس انت عارف إن ملك كانت بتدور على الحقيقة، كانت عايزة تعرف فين قبر أمها.
لم يتحمل عتابها، وأخيرًا أطلق مشاعرهِ المتأججة ليصيح هادرًا :
- أمها دي ست خاينة، متستحقش اللي عمله عمي الله يرحمه عشانها، الموته دي كانت قليلة على خيانتها، لو انا مكانه مكنتش هتردد إني أموتها بأيدي.
صوته المرتفع وإنفجاره المفاجئ جمدها بمحلها، وكأنما لم تتوقع منه تلك الوحشية المخيفة التي بزغت في نظراته المرعبة. انسحبت على الفور من أمامه وفرّت من تلك النظرات التي تبث الخوف في نفسها، فـ نفخ بإنزعاج شديد وهو يهرع من خلفها ليلحق بها، نادى عليها بأعلى صوته، حينما كانت على وشك فتح الباب :
- أستني يانغم.
لم تلتفت، بينما اجتذبها برفق وهو يهتف :
- أنا اللي هوصلك.
تحاشت النظر إليه، مشددة على رغبتها في الذهاب بمفردها :
- لأ أنا هاخد تاكسي وأروح.
فـ تعنت رافضًا ذلك بإصرار :
- مفيش الكلام ده.
فتح لها الباب وانتظر أن تمر من أمامه، فلم تبدي أعتراضًا هذه المرة، خرجت وخرج في أعقابها، متضايقًا مما أصابها من جمودٍ غير معتاد، جعله يرتاب مما ستقبل عليه من ردود فعل، قد لا تروق له.
*****************************************
لم يرحمها عقلها، منذ عودتها وهي تحسُ بلهيبٍ يُشعل صدرها. ظلت تحرك جسدها بتوترٍ وهي تتحدث إلى نفسها :
- حامل! يادي النصيبة السودا!.
انفعل "ربيع" على والدته قائلًا :
- الكلام ده مفيش منه فايدة ياما، خالتي ماتت واللي كان كان.. المهم حقها يرجع.
تلوت شفتيها بسخريةٍ مقهورة، وتابعت بصوتٍ صاحبه الخذلان :
- بتقول إيه ياربيع! مسمعتش الظابط وهو بيقول كانت حامل، يعني فعلًا عملتها وخانته، وأنا اللي عيشت مقهورة طول السنين دي عليها!.
لم يهتم "ربيع" بتلك المسألة الحساسة -والتي تمس الشرف - بقدر اهتمامه بإتخاذ كافة السبل التي تضمن الإنتقام من "يونس" و "يزيد" ، لذلك لم يدخر وسعهِ في تغيير مسار تفكيرها :
- ياما أفهمي ، اللي عملته خالتي إذا كانت عملته راح وأتدفن معاها، كان لازم المحروق إبراهيم يعرف أهلها الأول، هي مش غابة عشان يموتها ويخفي جتتها!.
أخفت "تفيدة" وجهها بين راحتيها وما زال صوتها ينوح بحسرةٍ :
- إيه اللي بتقوله ده ياربيع، ده شرف يابني هو هزار!! أكيد شاف عليها حاجه.
ورفعت رأسها لأعلى متابعة :
- ليه كده بس ياختي تحطي وشنا في الأرض، لـيه يامنار!.
تأفف "ربيع" منزعجًا، وهتف بصياحٍ :
- وبعدين معاكي بقى ياما!! أسمعي.. أنا مش هسيب حقها كده، ولاد الـ ×××× كانوا عارفين بعملة عمهم وبيدارو، وأنا بقى مش هسكت.
رمقته "تفيده" بإستهجانٍ بيّن قائلة :
- قصدك إيه!
صرح "ربيع" بحقيقة نواياه :
- هعرف المحروسة كل حاجه، عشان تعرف اللي بتتحامى فيهم دول عملوا إيه.. وانتي لازم تساعديني ياما.
ارتفع حاجبيه مع عرض "ربيع" لتلك الفكرة، وبدأ عقلها يتأرجح ما بين القبول والرفض :
- ملهاش حل تاني ياما، المسألة دلوقتي بقت واضحة زي الشمس ، وطالما إبراهيم مات الله يحرقه، يبقى بنته لازم تعرف الحقيقة كلها.
*****************************************
تعمد صفّ سيارته بعيدًا عن مرأى سكان المنطقة، تحاشيًا للتعرض إلى سياط ألسنتهم، ثم التفت إليها متسائلًا:
- هتقولي لـ.....
فقاطعته بدون تفكير :
- متقلقش ملك مش هتعرف حاجه.
تنهد مستشعرًا تغييرها جذري، وحاول تبرير موقفه لها :
- نغم أنا مش عايزك تفهمي موقفي غلط.
نظرت نحوه بإهتمام وهو يتحدث، ثم أعلنتها صراحةً :
- عشان كده كنت بتعامل ملك بالشكل ده! لأنها بنت ست خاينة.
تنغض جبينه مستنكرًا تفكيرها، ونفى ذلك عنه :
- بعاملها إزاي! أنا بتعامل معاها عادي.
- لأ مش عادي، أنت مضطهدها على طول وعمرك ما نصفتها.
وبدأ حديثها يكون أكثر تأثيرًا عليه وهي تتابع :
- ولا أنت ولا عمي إبراهيم الله يرحمه، كنت بسأل نفسي ليه بيعاملها كده، ليه يقسى عليها ويحرمها من تعليمها وكمان يجوزها واحد زي محمد، ياريته كده وبس، دي كانت بتتعذب قصاد عينه وعمره ما نصفها. ليه رماها لأول عريس كأنها تهمة بيخلص منها!. أتاريه كان بيحاول يتخلص من عقدة الخيانة اللي عاش بيها، بس للأسف اللي دفعت التمن واحدة بريئة كل ذنبها إن آ.....
وتوقف لسانها بعجزٍ عن متابعة تلك الكلمات الحرجة، لحظات وعادت تستكمل :
- إنتوا ظهرتوا في حياة ملك متأخر أوي يا يزيد، وياريتك ظهرت بالشكل اللي يعوضها.
بدا مائلًا للعدائية، وهو يدفع عن نفسه أي إتهام يُدينه :
- أنا معملتش أي حاجه لملك، بالعكس.. ده انا حتى مشوفتهاش لسنين طويلة.
فلم تتوقف "نغم" عن ضرب الحقيقة في وجهه :
- يمكن هو ده الغلط، إنك بعدت.. وحتى لما جتلك الفرصة مترددتش إنك تعاملها بمنتهى القسوة.
نفخ زفيرًا محتقنًا حينما هتف بـ :
- أظن يونس عوضها بكفاية أوي يانغم، ملك مش محتاجة غير يونس بس جمبها.
ثم التفتت عيناه تنظر إليها وهو يخفض صوته متابعًا :
- زي ماانا محتاجك دلوقتي أكتر من أي وقت.
أسبلت جفونها عنه، فصادفت عيناها ساعة اليد لتتفاجأ بمرور الوقت بسرعة البرق :
- أنا لازم أمشي.
وضع كفه على ساعدها و :
- متهربيش مني يانغم.
فوضعت كفها على كفه، واعترفت بـ :
- حاولت أهرب ومعرفتش، محدش بيهرب من قدره يايزيد.
وشددت أصابعها على يده قليلًا قبل أن تتركه وتذهب، وتذهب معها سكينته، ليجد الأرق المتعب يهاجمه من جديد، وعقله الذي لم يهدأ قد أعلن ثورته مرة أخرى.
*****************************************
وقف ينتظرها بالخارج، لعلها تكون مؤثرة أكثر منه عليها، ولكنها خرجت صاحبه معها الخيبة. كانت نظرات "كاريمان" مهزومة، وهي تردف بـ صوتٍ حزين :
- مش راضية تتكلم خالص يا يونس ، حتى الفطار مش راضية تاكله.. مش عارفه أعمل إيه.
أطبق "يونس" جفونهِ المرهقة، منذ الأمس مستيقظًا لم ينم، منتظرًا مواجهتها بهذا الصباح، علها تكون قد هدأت قليلًا، لكن الوضع يتحول من سئ لأسوأ. قرر ألا ينتظر أكثر من ذلك، سيحاول هو التدخل بدون وسيط، عله يكون دواء لدائها.
دلف إليها متأدًا، يترقب المشهد الذي سيراه، فـ إذا بها تجلس على الأرضية، تاركة لظهرها يستند على الفراش، وبالقرب من صدرها ضمت ركبتيها. سيطر "يونس" على شعور الحزن الذي انتابه لأجلها، ودنى منها خطوتين ليقول :
- مينفعش تكوني في الحالة دي ياملك، عارف إن الموقف مش سهل، بس انتي قوية وقد مواجهته.
نفت ذلك، ونطقت بأول كلمة منذ الأمس :
- أنا ضعيفة، أنا أضعف واحدة في الدنيا.. أنا مقدرش أشيل كل ده.
وتحشرج صوتها المصحوب بالأنين بالمكلوم :
- عشان كده بابا ظلمني، عشان كده كسر شخصيتي وجه عليا.. خاف أكون نسخة تانية منها.
والتقطت أنفاسها بصعوبة بالغة وهي تتابع :
- مكنش من حقه يعمل معايا كده.
وشهقت متابعة :
- وأعرف كل ده يوم فرحي!.
أوجعه فؤاده لحالها، ولم يجد من كلمات المواساة ما يكفي لتهدئتها :
- أنا آ.....
رفعت عيناها الباكية إليه، والإنتفاخ المُحمر قد بدد جمالهما، وارتعشت شفتاها محاولة النطق ببضع أحرفٍ خرجت متقطعة ضعيفة :
- أنا مش مكتوبلي أبدًا الفرحة، أنا اتخلقت عشان أشيل الهم طول عمري وبس.
كأن كلماتها العفوية - وهي في أوج وهنها - أثارت نزعة الضيق بداخله، لـ يتفشّى الإختناق بصدرهِ الذي انطبق فجأة. وأسرعت يداه ترفعها عن جلستها بالأرضية، ليردف بعدها مباشرة :
- أمال أنا موجود ليه ياملك؟ لو مش قادر أسعدك يبقى مستاهلش أكون جمبك دلوقتي، أديني فرصة أشفيكي من كل الجروح القديمة، وخلينا ننسى كل اللي فات ونبدأ من أول السطر.
ضمّ ذراعيه عليها ليُدفئ روحها، واسترسل في كلماته المهدئة :
- اللي حصل مات ومكنش بأيدك، واللي جاي هكون معاكي فيه، أنسي كل حاجه ياملك.
اندفن صوتها في صدره، وهي تردف بـ :
- الماضي مش بيسيب صاحبه يايونس.
فهتف بثقة شديدة، مؤكدًا على كلماته المتعمدة :
- وانتي مش صاحبه ياملك، صحاب الماضي خلاص.. ماتـوا.
تعليقات
إرسال تعليق