رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة واثنان 102 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة واثنان 102 بقلم ياسمين عادل
قلبي مكلوم، وكأن الدنيا قد اجتمعت لـ وأد السعادة ودفنها في جوفي."
_______________________________________
تفشّى التوتر في الوسط، مع ذكر السبب الكارثي لطلب الشرطة بخصوص التحدث إلى "ملك". تعابير قلقة وتنبؤات بما هو ليس خيرًا على الإطلاق، إنها الشرارة التي ستشعل الوسط وتوقدهُ نارًا، ولن تنطفئ بسهولة. تجلّى الإرتباك على ملامح "يونس"، ولم يقل عنه "يزيد" بل كان ضعف ذلك، وحاول التوصل لمعلومات أكثر حول الواقعة :
- معلش ياريت تفهمني أكتر.
فأجاب الشرطي بجدية لائمت الوضع :
- إحنا لقينا جثة المرحومة مدفونة في أرض تبع رجل الأعمال ريان النعماني أثناء أعمال الحفر عشان بناء الوحدات السكنية الجديدة بتاعته، وتوصلنا لهوية المرحومة بعد نتائج التشريح وتقرير الطب الشرعي أثبت ده، كمان طابقنا المعلومات بشهادة الست تفيدة أختها، ناقص شهادة مدام ملك اللي هتفيد في مسار القضية.
حضرت "كاريمان" في التو فور سماعها بتواجد الشرطة أمام بابها، تملك منها الذعر ووقفت بجوار "يونس" تسأل :
- في إيه يايونس؟ البوليس بيعمل إيه هنا ؟.
أشار "يونس" للخادمة "خديجة" كي تصطحبها بعيدًا عن تلك الأجواء المضطربة :
- مش وقته يانينة هقولك بعدين، ادخلي انتي عشان مش عايز ملك تحس بأي حاجه.
بنفس اللحظة كان يرى طيف "ملك" يمر من الرواق تأهبًا للوصول إلى الدرج، فـ تجهمت ملامحه أكثر وهو ينظر نحو شقيقهِ متمتمًا :
- ملك نازلة!.
ثم التفت بعجلٍ للشرطي وهتف :
- ممكن نأجل الموضوع ده لبكرة وأنا بنفسي هجيبها الصبح عشان تقول أقوالها.
اعتذر الضابط بتهذيب، رافضًا كسر أمر المباحث :
- للأسف مينفعش.
فـ تدخل "يزيد" بالأمر قبل أن يتفاقم :
- النهاردة فرحها يافندم، أكيد في استثناء في حالة زي دي.
أخرج "يونس" هاتفهِ بتعجلٍ قاصدًا الإتصال بمن سيساعده في إنهاء الأمر - بشكل مؤقت -، ولكن لسوء الحظ كانت "ملك" أسرع في الوصول إليه بتلك السرعة المذعورة، لا تستطيع السيطرة على أنفاسها المتسارعة من فرط الرعب الذي عاشتهُ حينما رأت سيارة الشرطة أمام بابهم. وقفت لجواره وهي تسأل :
- في إيه يايونس؟؟.
التهى في إبعادها عنهم، محاولًا بكل جهده السيطرة على الأمر، حتى لا يحدث ما لا يُحمد عقباه :
- مفيش حاجه ياحببتي بسيطة، مجرد إجراء روتيني، بس أطلعي انتي وأنا هخلص الموضوع.
فتدخل "يزيد" ليعاونه في إبعادها الآن :
- تعالي ياملك.. من فضلك.
فتسائل الضابط على الفور موجهًا أنظاره إليها :
- حضرتك مدام ملك؟.
وزعت نظراتها المرتبكة بين الشقيقين وهي تتسائل بعدم فهم :
- حضرتك جاي عشاني أنا؟.
فـ انفعل "يونس" بتلك اللحظة، شاعرًا بإقتراب وقوع ما لا يحبذ معايشتها له :
- ما قولتلك ياملك أنا هخلص الموضوع مش بتسمعي الكلام ليه !.
أحست وكأنه يدس عنها شيئًا، فـ تمكن العناد من رأسها راغبة في الوصول إلى أصل الحكائة التي لا يرغب بأن تعلم عنها شيئًا، وأصرت على معرفة سبب سؤال الشرطي عنها. تجاهلت حديثه الذي توجه إليها، ونظرت للشرطي وهي تسأل :
- في إيه ياحضرت الظابط؟ بتسأل عني ليه؟.
فأجابها مباشرة بدون المط في الحديث :
- الموضوع يخص مامتك اللي اختفت من ١١ سنة، إحنا لقينا جثتها.
تجمدت أطرافها وأحست كأن عقلها يُعصف يمينًا ويسارًا، توقف عن تلقي إشارات من المخ للحظات، حينها كان "يونس" ملتزمًا الصمت، بينما داخله يعج بالغوغاء المزعجة. نظر بطرفه مراقبًا تحول تعابيرها، وتغير ردود فعل وجهها المتجهم الصامت، ارتعب من المراحل القادمة التي ستقبل عليها، فـ الصمت هو البوابة الأولى بالنسبة لها، وما ستقدم عليه هو الجحيم بعينهِ.
***************************************
وقفت گالتائهة وسط هذا العالم المتوحش، بترقبٍ مرتعب تنظر حولها، تنتظر ذلك اللقاء الذي طال انتظاره. سينكشف السر العظيم الذي جاهدت لتتوصل إليه، وسَيُرفع الستار عن الحقيقة التي لم تعلم عنها شيئًا. تشبثت أصابعها ببعضها البعض، وأحست بإندمال يسيطر بسطوتهِ على أطرافها ومؤخرة رأسها، حتى موضع جرحها قد تنشّط ألمه وكأنه استيقظ حديثًا من خمودهِ. ازدردت ريقها والتفتت عيناها تنظر إليه، لتجده عالقًا ببصره عليها منذ الكثير من الوقت، وسألته بتوجسٍ :
- إنت كنت عارف حاجه عن الموضوع ده؟!.
لم يتمهل أو يولّى نفسه فرصة للتفكير ، وسرعان ما أجاب :
- لأ.
كأنها لم تصدقهُ، فسألته بتشككٍ :
- أمال ليه مكنتش عايزني أعرف!.
كانت إجابته بمنتهى الشفافية التي أجبرتها على التصديق :
- أنا كنت عايز نأجل الموضوع لحد ما الفرح يخلص، كان نفسي مفيش حاجه تزعلك في يوم زي ده.
تفوه بالجزء الأخير وهو يمسك بكفيها ويخلصهم من تشبثهم، وضمّ عليهم بيدهِ الباردة - لأول مرة - قائلًا :
- متقلقيش، كله هيعدي.
هزت رأسها بالسلب، نافية مرور أمرٍ گهذا :
- المرة دي مش هيعدي يايونس.
بهتت حينما رأت "تفيدة" تُقبل عليها، مما جعل "يونس" يلتفت لينظر حيث تنظر هي، فـ اندفعت تعابير الغضب لتغزو وجهه، خاصة مع رؤية ذلك البغيض "ربيع"، سدّ بجسدهِ إمكانية رؤيتهم لها، فلم تتراجع "تفيدة" عن محاولة الوصول إليها، حيث التفتت حولهم وهي تصيح بـ :
- شوفتي يابنت الغالية، مش قولتلك أبوكي قتل أختي وتاوى "خبأ" جتتها!!.. أهو ربنا ظهر الحق.
انفجرت الدماء في عروقها، وبدأ جسدها يدفع بحرارة شديدة مكمونة بداخله لخارج بدنها وهي تصرخ في وجهها :
- بس أسكتي مش عايزة أسمع منك حاجه، بابا لا يمكن يكون عمل حاجه زي دي انتي كذابة!.
تناوب "ربيع" التحدث عن والدته، ليقول بـ تلقائية متهجمة :
- عايزه إيه تاني عشان تصدقي، ده ربنا رحمه من إيدي لو كان عايش كان زمانه بيستعد عشان يقابل وجه كريم على ايديا.
وقف "يونس" قبالته مباشرة وقد تحول وجهه لآخر لا يبشر بخير أبدًا، وخرجت لهجته شديدة متوعدة :
- أوعى تفتكر القسم اللي احنا فيه ده هينجدك من إيدي المرة دي، لم نفسك لو مش عايزني أعمل منك عبرة.
وقفت "تفيدة" بالمنتصف كي لا يحتدم الشجار بينهما، وأردفت أثناء نظرها لـ "يونس" :
- ما براحة علينا شوية!! شايف نفسك على إيه ياخويا ما كل حاجه اتكشفت وعمك اتفضح خلاص.
- ملك إبراهيم الجبالي.
صوت المجند المنادي عليها استرعى انتباه الجميع، إلا هي، كانت في وادٍ آخر، مُغيبة عن الواقع، تحاول أن تربط الأحداث بعضها ببعض. سبحت بعيدًا، حيث إحدى عشرة أعوام ماضية، تبحث في ذهنها عن تفاصيل اختفاء والدتها التي لا تذكر عنه شيئًا، لقد كبرت بين أحضان عمتها "هبه"، ولكن قبل ذلك ماذا حدث؟ كيف اختفت "منار"؟. لا تعلم إجابة محددة عن ذلك، كل ما تتذكره هو وجود "إبراهيم" في حياتها فجأة، بعدما كان مجرد زائر يأتي لقليل من الأيام ثم يعاود السفر، وصاحب تواجده المستمر إختفاء "منار" أيضًا، وهذا ما استدعى شكوكها.
انتفضت "ملك" أثر يد "يونس" التي أمسكت برسغها، ونظرت إليه وهو يهتف :
- سمعاني؟ رئيس المباحث عايزك.
استجمعت شتاتها المتبعثر، وخطت بتوترٍ نحو تلك الغرفة التي ستعرف فيها كل شئ، ترددت وهي تقف أمام الباب للحظات، ولكنها في الأخير دلفت، لتبدأ رحلتها في الإجابة على كل الأسئلة التي تتجول في ذهنها.
*****************************************
يبدو ظاهريًا بذلك الهدوء المريب، أما بواطنهِ تقدح گالقدر المغلي. تنشطت الذكريات في ذهنه واستعاد ما مرّ عليه منذ سنوات، لم يشعر بتأنيب الضمير للحظة واحدة، بل إنه مؤمن بصحة ما فعله "إبراهيم" گرد على خيانته العُظمى. ظل "يزيد" منفردًا بنفسه، في انتظار إتصال من شقيقه يطلعهُ فيه على مستجدات الأمور، بعدما أصرّ "يونس" على أن لا يصحبه معه، وحينئذٍ شاركته "نغم" جلسته قائلة بشئ من المواساة :
- متقلقش زمانهم راجعين وهيطمنونا.
نفى عن نفسه ذلك بثقة بالغة ناقضت تمامًا مشاعره الحقيقية التي يُخفيها :
- مش قلقان، ملك مع يونس وهو أكتر واحد عارف مصلحتها وبيسعى عشانها، يعني مفيش حاجه تقلق.
التفت حوله وسأل :
- نينة فين؟ نامت؟؟.
تركت ظهرها يستند على المقعد وهي تجيبه :
- لأ، طلعت تقعد في أوضتها بعد ما كل الناس مشيت، فـ سيبتها براحتها ومعاها ديچا.
نظر "يزيد" في ساعة اليد وهتف بـ :
- انتي لازم تروحي، الساعة بقت ١٠ ونص.
فأردفت بشئ من التردد :
- أنا هستنى ملك أطمن عليها، حالتها مكنتش كويسة وهي بتغير فستان الفرح.
لحظات من النظرات المطولة التي حملت بين طيّاتها معانٍ ثقيلة على غيرهما فهمها، كلٍ منهم يشكو بطريقته، وكأن تلك الوسيلة هي التي يروّحون بها عن أنفسهم وسط ما حدث اليوم. مدّ كفه المفتوح إليها، فلم تتردد في وضع يدها بين راحتهِ، اجتذبها برفق نحو فمه، وألصق شفتيه عليها يُقبّلها بلطفٍ. بقى وجهه ملتصقًا ببشرتها للحظات، إنها أبسط طرق الإعتذار التي لجأ إليها في هذا الوقت العصيب، وما كان منها سوى تقبل اعتذاره بوافرٍ من الرضا والسماحة. شددت على أصابعه، وبيدها الأخرى كانت تمسح على شعره برغبةٍ لم تقوَ على ردعها، وتركت الصمت يزيل ما بينهما من ندوبٍ، شارك كلاهما في وجودها.
قلبي مكلوم، وكأن الدنيا قد اجتمعت لـ وأد السعادة ودفنها في جوفي."
________________________________________
بعد أن أوصدت الباب عليها بإصرار لكي تبقى بمفردها، وقفت في منتصف الغرفة لأكثر من خمسة دقائق متجمدة، يحاول عقلها المصدوم التخلص من أثر ما تلقتهُ من أخبار كارثية غيرت مسار كل شئ. لا تعلم لماذا تأبى عيناها أن تخضع لشلال الدموع المختزن بنفسها!. وبقى الوجع گالوحش الضاري الذي ينهش في فريستهِ. نظرت بقهرٍ شديد إلى فستان زفافها الذي لم تهنأ به، ارتدته لدقائق معدودة، ومن بعدها عاد حظها التعيس يراودها مجددًا، ولكن هذه المرة بشكلٍ أكثر قسوة ومرارة.
لملمت الفستان ووضعته في علبته، ثم ألقتها جانبًا بدون اكتراث، مشت ببطءٍ نحو فراشها، تناولت دميتها، ودثرت نفسها بالغطاء لتهرب من جديد. نظرت بتمعنٍ لتلك الدمية التي رافقتها لعمرٍ ليس بقصير، كانت ملامحها حزينة إلى حدٍ ما، تُشبهها، ولذلك كانت متعلقة بها طوال حياتها، لإنها كانت ومازالت تذكرها بنفسها، وأخيرًا بعد صراع طويل مع نفسها، تدحرجت عبرة دافئة من طرفها، أطبقت جفونها فأسقطتها على الوسادة، لتستمع إلى صوتهِ القلق وهو ينادي عليها :
- طب أفتحي واتكلمي معايا ياملك ، قولتلك قبل كده الهروب مش حل.
وكأنها لم تستمع إليه، بينما تابع هو مجددًا محاولاته :
- أفتحي عشان خاطري، أنا مش قادر أسيبك تشيلي كل ده لوحدك.
أحست بجفاف حلقها، فـ مسحت بلسانها على شفتها الجافة قبل أن تهمس بخفوت :
- عادي، أنا طول عمري بشيل لوحدي، مجتش على المرة دي.
تطلع إليه "يزيد" مشفقًا عليه، فهو مضطر على حمل ذلك العبئ أيضًا، بينما هو البرئ بينهم. فرك جلدهِ بعنفٍ وهو ينفخ بضيقٍ شديد، ثم أردف بـ :
- سيبها تهدا يايونس.
فـ صاح "يونس" رافضًا :
- مقدرش أسيبها كده.
فـ صرحت "نغم" بناء على معرفتها برفيقتها :
- مش هتفتح يايونس، حتى لو وقفت هنا للصبح.. الأحسن تسيبها شوية.
التفت "يونس" يرنو لشقيقهِ بنظراتٍ غامضة، ومن ثم هتف :
- تعالى معايا.
وسار نحو الدرج، بينما بقيت "نغم" بمحلها، مستثقلة العودة إلى منزلها في حين أن "ملك" هنا بهذه الحالة المؤسفة. لمحت "خديجة" تخرج من غرفة "كاريمان"، فـ مضت نحوها كي تطمئن على حالها، فقد نالها من الحزن نصيبًا وفيرًا.
******************************************
أغلق "يونس" الباب من خلفهم، وعاد ينظر بعتابٍ منفعل نحو شقيقهِ، ثم هتف بـ :
- قولتلك لازم تعرف، قولتلك هييجي يوم والحقيقة كلها هتظهر وساعتها الوجع هيكون مضاعف.. إيه رأيك؟.
لم يكن "يزيد" قادرًا على تحمل تأنيب أخيه له، ومع هذا حاول أن يكون منصتًا بدون أن يعترض، في حين تابع "يونس" :
- كل اللي عملناه ممنعش قدرة ربنا في إنه يظهر الحقيقة، مكسبناش غير إننا هنرجع تاني من نقطة الصفر.
تنهد "يزيد" وهو يجلس على طرف المقعد :
- كنت عايزني أعمل إيه يايونس!.. أروح اقولها أه أبوكي هو اللي قتل أمك ودفنها عشان هي كانت آ ×××××× وخاينة!.. ولا جاي تلومني عشان خبيت من الأول، مش فاهم!. ولا آ....
انفتح الباب بهذه اللحظة، قبل أن يتمم "يزيد" عبارته للنهاية، لتقع أعينهم عليها وهي توزع نظراتها المذهولة بينهما، غير مصدقة ما استمعت إليه للتو من قصة قاسية لا يتحمل أحد معايشتها أو السماع عنها...
تعليقات
إرسال تعليق