رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة وواحد 101 بقلم ياسمين عادل
رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة وواحد 101 بقلم ياسمين عادل
"في صـراع الحياة، قلما ستفوز."
_______________________________________
بحركةٍ مباغتة فتح الباب، ليصدم بهيئتهِ المرعبة تلك "بهجت" وولدهِ "شريف" ويرجف أبدانهم. اللذان أتيا في تلك الساعة المتأخرة لهدفٍ خسيس. بضع ثوانٍ من الصدمة المتجلية بوضوح على وجوههم، بعدها حطّت عليهم ظلال رجال "قاسم" محاطون إياهم من كل جانب وناحية، لتعتلي إبتسامة مثيرة للإستفزاز على محياه، وهو يشير إليهم للدخول :
- أتفضل يابهجت، واقف برا ليه؟.
حمحم "بهجت" بتحرجٍ، وفكر في الإنسحاب الفوري من معركة هو خاسرها لا محالة :
- أفتكرت حاجه هنزل أجيبها وأرجع نكمل كلامنا.
رفض "قاسم" إتاحة فرصة گتلك له :
- لأ مش وقته.
ودلف للداخل تاركًا تلك المهمة لرجاله الذين دحروا بهم للداخل، فـ ثار "شريف" الذي كاد يتعثر ويسقط على وجهه صائحًا :
- إيـه ياأخينـا انت!!.
أشار لهم "قاسم"، فـ دخل الجميع وأوصدوا الباب. كانت "نغم" تقف في تلك الزاوية البعيدة عن النظرات، تراقب بتوترٍ ما يحدث بين جدران منزلها، حتى وقعت عينا "بهجت" عليها، فـ اتقدت عيناه بشرّ وهو يهتف بعصبية مفرطة :
- بقى كده يابنت أخويا!! دي أخرتها.. بعد ما فضلت مراعيكي طول السنين دي وحاطك فوق راسي، تعملي كده!؟.
تركت وقفتها المنزوية تلك، وراحت تدافع عن نفسها أمامه :
- أنا معملتش حاجه ياعمي، أنا كل ده بحاول أفهمك إني معملتش حاجه وإنت ظالمني.
ثم نظرت بإتجاه "قاسم" وتابعت :
- مسبتش ليا حل تاني أقدر ألجأ له.. كان لازم أدافع عن حقي.
فهدر بصوته بتشنجٍ :
- تقومي تدخلي الغرب بينـا!!.
زجره "قاسم" بنظرةٍ حامية حملت بعض من الفتور، وسأل :
- خلصت ولا لسه يابهجت؟
تراجع "بهجت" عن النظر نحوها، لينظر صوب "قاسم" قائلًا :
- دي حاجات عائلية ياقاسم باشا، متأخذنيش يعني مكنش يصح تدخل فيها.
- ميهمنيش رأيك خالص.
ابتعد عنه واحتل بجسدهِ كله المقعد الضخم، وأردف متسائلًا بصرامة :
- أنا مش قولتلك قبل كده ملكش دعوة بنغم!.
واحتد صوته متابعًا سؤاله بسؤال آخر :
- مش قولتلك نغم في حمايتي وأنا المسؤول عن أي حاجه تخصها يابهجت!!.
وكأنه تلميذ يقف أمام مدير المدرسة، أو موظف يُحاسبه رئيسه في العمل. لم يتحمل الوقوف على قدميه لأكثر من ذلك، فـ سار متأدًا نحو المقعد المقابل له وجلس، وحاول أن يبدو لينًا كي لا يخسر رجلًا مثل "قاسم" ويكتسب عدائهِ الذي لا يُحتمل :
- بص ياباشا، احنا مهما حصل دم واحد، مسيرنا يوم نتصالح والميا تمشي في مجاريها.
حك "قاسم" مؤخرة عنقه، وكأنه لا يهتم بكلمة واحدة مما قيل :
- شكلك مفهمتنيش، وإلا كنت جاوبت على السؤال من غير اللف والدوران اللي أنا مبحبوش.
نفخ" قاسم" متابعًا على مضض :
- من هنا ورايح أنا هشيل المسؤولية عنك ، هريحك على الآخر.. أنسى نغم خالص يابهجت، وإلا هزعل.. هزعل أوي.
كتم "شريف" عصبيته بصعوبة بالغة، ولكنه قد ضاق به ذرعًا ولم يتحمل الصمت لأكثر من ذلك :
- دي مش الأصول يابن الأصول، الأهل محدش بيدخل بينهم ياباشا، خصوصًا لو كان الموضوع فيه شرفنا وسمعتنا.
بدون عمدٍ منه ضغط على ذلك الوتر الحساس، فجعل مشاعر "قاسم" العدوانية تنتفض بعنفٍ حاول الأخير ردعه، لكن تعابير وجهه المكفهر لم تختفي تمامًا. هنا كان عليها التحدث، التبرير، الإعتراف، للخروج من قوقعة الإتهام الموجه إليها :
- انتوا بانيتوا أوهام وصدقتوها، وحكمتوا عليا بالموت وانا بريئة من كل ظنونكم.
وأفصحت عن إنها تعلم جيدًا ما السبب الحقيقي وراء تعنتهم في تنفيذ العقوبة عليها :
- كل ده عشان الأرض، ما صدقتوا تلاقوا ثغرة تخلصوا مني بيها.
وكشرت عن أنيابها وهي تحتمي بـ تواجد "قاسم" متابعة :
- بس أنا مش هسيبلكم الفرصة دي.. أبـدًا.
****************************************
تنهد "يونس" بقنوط، وهو يرى "يزيد" يتجول من حوله يمينًا ويسارًا وهو يسرد عليه تفاصيل مصغرة عما حدث اليوم. طرق بأصابعه على الطاولة المجاورة، وترك صبابة سيجارته في المنفضة حينما كان "يزيد" يسأله بتوجسٍ :
- هو انت مركز معايا؟!.
- اممم، طبعًا.
أجج "يونس" من غضبهِ، فـ صاح بإهتياجٍ منفعل :
- أممم إيــه!! يعني إيـه أمم دي!
انتصب "يونس" في جلستهِ المستريحة، وأشار لإنفعاله المفاجئ والغير مبرر قائلًا :
- هي دي المشكلة يايزيد، العصبية الزيادة والتهور في ردود الفعل.. بتجبرها هي كمان تتعصب عليك عشان تكون متساوية معاك وترضي غرورها اللي مش هيسمح أبدًا إنك تيجي عليها.
قطب جبينه وكأنه تأثر به، وجلس بالقرب منه متسائلًا :
- وإيه كمان!.
بدأ يكون إيجابيًا مؤثرًا وهو يتغافل عن سخريته قائلًا :
- أحتويها يا يزيد، اعتبر ضعفها قوة ومتجيش عليها، صالحها ياأخي حتى لو كانت غلطانة، دلعها، حسسها إنها الملكة. خليك مع الدنيا كلها حاجه، ومعاها هي حاجه تانية. أوعى تخليها تحس إن في واحدة في قلبك غيرها، دي أخطر حاجه في العلاقة.. ممكن تهد كل المشاعر الحلوة.
تذكر "يزيد" السبب الرئيسي في تلك المشكلة التي تفاقمت بدون داعٍ، وشرد للحظاتٍ يفكر في تفاصيل ما حدث خلال يومين. هي بالفعل كانت تحتاج لإحتوائه للموقف، وليس تركها لظنونها بهذا الشكل، خاصة وأن الأمر يتعلق بغيرتها الحامية، كان عليه محو تلك الفكرة من ذهنها بدلًا من السعي وراء ردعها. نهض فجأة من جلستهِ، ومضى نحو الباب بحركة مباغتة جعلت "يونس" يرمقه بإستغراب :
- رايح فين يابني!.
لم يجبه وانصرف في الحال، فـ تقوست شفتي "يونس" بسخطٍ وهو يتمتم :
- يعني بوظت اليوم وياريته ييجي بنفع معاك!
***************************************
- أديني سمعتكم للآخر، وكلامكم زي ما دخل من هنا خرج من الناحية التانية.
ختم عبارته وهو يشير لأذنيهِ، بحزمٍ قاطع لا مجال للمناقشة بعده، وأضاف كلمة أخيرة گنوع من التشديد على كلماته المحذرة :
- الأرض مبقتش ملكها، ولو على الدم أبقوا أسألوا عليها كل شهر فضيل وفي الأعياد.
ثم نظر بإتجاه "نغم" :
- حتى هي عايزه كده.
بعينان ملأها الحقد الشديد والكراهية المميتة، رمقها عمها وإبنه الساخطين عليها، أياديهم مغلولة بأصفاد من حديد، والعجز عن فعل أي شئ يتملكهم، ليس فقط لـ سطوة "قاسم" التي يعرفون جيدًا مداها، وإنما لحجم أعمالهم التي ترتبط بالعمل مع "قاسم" أيضًا، أي أن المصلحة العليا لا تقتضي أبدًا معاداتهِ.
وقف "قاسم" عن جلسته، وأشار لرجاله كي يتنحون عن أمام الباب :
- وصلوا الحج وإبنه لتحت.. مشوارهم لقنا لسه طويل.
نهض "بهجت" وثقل الخيبة يُثقل عاتقهِ، خسارته تلك المرة فادحة، ليست الأرض التي لم يعد لهم عليها سلطان فحسب، بل الأسوأ شعورهم بإنتصار "نغم" عليهم. بعث لها بنظرة أخيرة، نظرة رغمًا عنها أوجعتها، وهتف جملة أخيرة ختم بها هذا اللقاء :
- لا ليا بنت أخ ولا انتي ليكي أهل من الأساس، سمعتي.
التفت مستعينًا بعصاه لكي يتجاوز باب الشُقة برأس مُنكسة من خلفهِ ولده، وسار في أعقابهم رجال "قاسم" كما أمرهم الأخير، صفقوا الباب من خلفهم لينفرد "قاسم" بها، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة كانت هي تستبقه قائلة :
- أنا عارفه عايز تقولي إيه، بس لازم تفهم الحقيقة الأول.
قاطع حديثها بدون رغبة في سماع ما تبقى من حوارها :
- مش عايز أعرف حاجه متخصنيش، لكن نصيحتي ليكي إنك لازم تخلي بالك من نفسك وتحافظي عليها يانغم، متخليش أي حد يمسك عليكي غلطة.
أومأت رأسها بتفهم حينما كان يتابع :
- بكرة نبقى نكمل كلامنا عشان الوقت أتأخر.
رنت إليه بإمتنان شديد لإنقاذها من براثنهم اليوم، وتبثّن ذلك في نبرة صوتها :
- مش عارفه أشكرك إزاي بجد على وقوفك معايا.
انتقل بخطواته نحو الباب :
- سلام.
- سلام.
رافقته حتى خروجه من الباب، ثم أوصدت على نفسها بعدما اجتاحها شعور بالأمان. رغم ذلك هناك شئ ناقص، شئ يسلبها شعور السعادة لتخلصها من تلك الوعكة. أخرجت هاتفها من جيب بنطالها، تفحصته عسى أن تجد مكالمة فائتة منه؛ لكنها لم تجد شيئًا. خيّم الحزن على وجهها من جديد، وبدأت تجلد ذاتها التي وضعتها موضع الحمقاء الغبية. أطبقت جفونها شاعرة بحرارةٍ تنبعث من عيناها التي ترفض هطول الدموع، واستمعت لأنينها المكتوم بين ضلوعها. قذفت بالهاتف بعيدًا، وسارت نحو غرفتها لتُحتبس فيها أطول وقت ممكن، تريد أن تنسى، تتراجع عن حبه، وتترك طريقه الذي لم يثمر عليها سوى الحيرة والألم.
*****************************************
وقف طويلًا أمام ذلك الخاتم الماسي الصغير، يتأمل رقة تصميمه ونعومته، وأخيراً قرر شرائهِ بعد إنتقاء شديد الدقة لكي يحوز على إعجابها. أشار "يزيد" نحو الخاتم الذي وقع عليه الأختيار وهتف بـ :
- خلاص هاخد ده.
فـ أيدّ الصائغ اختياره :
- زؤك حلو أوي يافندم.. حالًا هنحطه في علبة.
تناوله من بين التشكيلة الضخمة وابتعد عنه، بينما أخرج "يزيد" هاتفه وكاد يتصل بها. توقف.. فكر مليًا، ثم قرر ألا يحادثها الآن، سينتظر اللحظة التي يواجهها فيها، كي لا تفسد الأمور وتخرب خطته لإسترضائها.
سينتظر الغد حتى تكون الفرحة مضاعفة، حيث حفل زفاف "يونس" و "ملك"، والذي أعدّت له "كاريمان" بكل حُب، وعندما تسنح له الفرصة لن يتركها، وسيضع مُسمى شرعي لتلك العلاقة كي يمحو بذلك كل ما تظنه من ظنونٍ واهية. سـ يفي بعهده، ولن يتركها أبدًا.
*****************************************
إنها ليلة حلمت بها طويلًا، وتجاوزت الكثير من المصاعب لكي تحظي بها في النهاية. تكليل زواجهم بحفلٍ عائلي صغير كان واحد من أحلامها الوديعة، وها هو يحقق لها ما حلمت به. ظلت عيناها مرابطة على ثوب زفافها الأبيض، وكأنها المرة الأولى التي سترتدي بها فستان أبيض، حتى عندما وضعته على بدنها كان الشعور به مختلف تمامًا. ظلت تدور في حلقات مستمتعة بلمعانهِ وزهوتهِ، ثم نظرت لرفيقتها التي كانت تضبط لها الطرحة متسائلة بتحمسٍ مفرط :
- حلو يانغم؟.
ابتسمت الأخيرة بسعادةٍ وحبور قائلة :
- تحفة ياملك، بسم الله ما شاء الله.
لمحت هاتفها الذي يهتز على الكومود وقد انبثقت على شاشتهِ مكالمة واردة، فـ تنهدت وهي تصرف بصرها عنه متابعة ما تقوم به، متجاهلة تمامًا الرد عليه منذ الصباح.
-على جانب آخر-
كاد "يزيد" ينفجر من فرط الغيظ وهو يعاود محاولته للمرة العاشرة، ولكنها لم تجب گالمرات السابقة، أندفعت الدماء المحتقنة في عروقهِ، وصعد لغرفة شقيقهِ كي يروي عليه ما طاله. فتح الباب على حين غرة، فـ استمع لتوبيخ "يونس" :
- هتحترمني أمتى يازفت انت!! ده انا حتى عريس والنهاردة فرحي!.
تلوت شفتي "يزيد" بإستهجان وهو يتطلع لهيئتهِ الوسيمة وقال :
- عريس إيه بقى ماانت عملتها في نص الليل وبالبيچامة!.
تأفف مختنقًا وهو يجلس على أقرب مقعد وهو يسأل :
- هي نغم مع ملك في أوضتها، صح؟
- إيه رأيك البيبيون السودا ولا البيضا أحلى!!.
اشتطت "يزيد" أكثر وهو يهتف متذمرًا :
- أنا بكلمك يايونس مش سامعني ولا إيه؟.
أغلق "يونس" آخر زرّ بالقميص الأسود وهتف بـ :
- آه معاها.
تحسس "يزيد" جيب سترتهِ الرمادية، حيث عُلبة الخاتم الذي قرر إنه سـ يُهديها إياه الليلة، ثم تمتم بـ :
- ماانا مش هسيبك النهاردة غير لما نتصالح.
تناول "يونس" قنينة عطره وهو يسأل :
- هو مين جه تحت يازوو.
- صحاب نينة الأرشانات وشوية ناس من قرايبنا، مش كتير يعني.
استمع "يزيد" لصوت أبواق تخترق البوابة، فـ نهض لينظر عبر الشرفة، ليتفاجأ بعربة الشرطة تقف أمام (الڤيلا) ويقترب من البوابة أولئك المرتدين للزي الرسمي. انقبض قلبهِ لرؤيتهم وهتف بـ :
- خير!.
وعاد يدخل :
- في شرطة تحت.
ومضى نحو الباب ليغادر الغرفة، ومن خلفه هرع "يونس" وقد انتابه القلق.
فتحت "خديجة" الباب ظنًا إنه أحد الوافدين للحفل، لكنها صُدمت برؤيتهم أمامها، وارتبكت كما لو كانت سارقة تنتظر محاكمتها، تحشرج صوتها المذعور وهي تشملهم بنظرات قلقة، وتسائلت :
- خير يابيه؟.
فسأل ضابط الشرطة :
- مش ده بيت مدام ملك الجبالي؟؟.
أتى صوت "يونس" من الخلف وهو يردف بجدية حازمة :
- أيوة يافندم هو.. خير.
ابتعدت "خديجة" وبقى الشقيقين في مواجهة رجال الشرطة، بينما هتف الضابط قائلًا برسمية :
- عايزين نقابلها.
فتسائل بإرتيابٍ قلق :
- بخصوص إيه؟؟ أنا جوزها تقدر تفهمني كل حاجه.
فأجاب بصراحة مطلقة، زرعت الرعب في أغوارهم :
- بخصوص المرحومة مامتها.
تعليقات
إرسال تعليق