رواية دمية مطرزة بالحب الفصل المائة 100 بقلم ياسمين عادل

_________________________________________

قضت يومًا كاملًا بتحمسٍ ونشاط في ترتيب الكثير من الأشياء بمنزلها الجديد، عشّها السعيد الذي ستحط عليه سعادتهم عمّا قريب. تجولت عيناها بحبور غمرها في المحيط من حولها، ونظرت للعمود الأسطوري الذي بدأت في طباعة صور خاصة بهم عليه، كان أكثر الأشياء بهجة، أهتمت بتفاصيله بكل حُب، وكأنه الرجل الأول في حياتها، تختبر معه تفاصيل ومشاعر لم تحيا مثلها أبدًا.

وضعت "ملك" الإطار الخشبي ذا الشكل الغريب على الكومود المجاور للفراش، ونظرت له. "يـونس".. الهدية التي بُعثت إليها من السماء، العوض الذي أفضى به الله عليها، الأمان الذي عاشت عمرها مفتقداه، رجلًا إن طافت الأرض على ساقيها لن تجد شبيهًا له أو مثيلًا. هامت فيه وهي تتأمل تفاصيل وجهه الوسيم في الصورة، كأنها أول مرة تراه فيها، وبطرف سبابتها كانت تلمس الصورة، كأنها شعرت ببصيلات ذقنه الصغيرة تشكشك أصابعها، فـ ضحكت. استمعت لصوته قريبًا منها، فـ انتبهت إليه :

- مـــلك.

التفتت وسارت نحو الباب حينما دخل هو :

- انتي حطيتي فين البرواز الكبير اللي فيه صورة بابا ونينة مع بعض؟

تعلقت عيناها عليه بدون أن تجيب، لم يكن ذهنها حاضرًا معه من الأساس، نظراتها العاشقة تلك جعلت تعابيره تنتقل لطورٍ آخر، بادلها ابتسامة مرحة وهو يدنو منها، وسأل :

- بتبصيلي كده ليه؟.

كان صوتها مشتاقًا أهلكه اللوع، وهي تجيب بتلقائية بريئة :

- عـشان بـحبك.

رتبّ شعرها القصير بأصابعه قائلًا :

- مش أكتر مني.

وتناول كفها ليضم عليه أصابعه :

- أنا بحبك أكتر من أي حاجه في الدنيا.

وقبل أن ينخرط في موجها الثائر بإنسجامٍ، كانت تسحبهُ لشاطئ الواقع من جديد، حيث ابتعدت على الفور ونظرت للغرفة وهي تسأله :

- إيه رأيك في الأوضة؟ أنا كده خلصتها؟.

لم ينظر للغرفة حتى، وصدّق على روعتها متيقنًا :

- أي حاجه إيدك تتحط فيها بتحلو.

جعل ظهرها ملتصقًا بصدرهِ، وضمها إليه وهو يهمس بجوار أذنها :

- كلها النهاردة بس ياملاك، وبكرة هنبقى لوحدنا في بيتنا، مستعدة؟.

أومأت برأسها شاعرة بتدفق الدماء المتحمسة في عروقها، وبدأ جسدها يدفأ تدريجيًا وهي تحس إقتراب اليوم المـوعـود :

- أنا معاك وبيك مستعدة لأي حاجه.

وشددت يداها على ذراعيهِ اللائي تحتضنها، غير راغبة في تركه يبتعد أبدًا.

***************************************

بطرفهِ نظر، كي لا يُشعرها بإنها محطّ اهتمامه. تجاهل تواجدها كما لو كان منفردًا، أما هي، فـ ظلت مهتمة بالعبث في جهاز الحاسوب المحمول، متعمدة ألا توليهِ حتى أنظارها. توقفت السيارة في إشارة مرورية، فـ أغلقت "نغم" الحاسوب وراحت تفتح مُشغل الصوت لسماع الأغاني، ظلت تبحث بين محطات الإذاعة حتى وجدت القناة المنشودة، ومن حُسن الحظ إنها كانت أغنية تُحبها. لحظات.. وما أن بدأت تندمج مع الأغنية؛ حتى وجدته يغلق (الراديو). التفتت بأبصارها نحوه، وعادت تُشغله من جديد وهي تردف بـ تذمرٍ :

- أنا عايزة الأغنية دي.

تجاهلها تمامًا، وراح يُغلقه مرة أخرى وهو يهتف ساخرًا :

- بس ياماما، مش عايز صداع هنا.. آآآه.

اختطفت يده التي كانت تحاول إغلاق (الراديو)، وقامت بـ عضّ ظهرها بأسنانها الحادة تلك، فـ تآوه متألمًا وهو يجذب يده منها عنوة. انتقلت نظراته الحانقة نحوها صائحًا بإنفعال :

- أنتي عـبيـطة يابنتـي!.

هدأت، وكأن بعضًا من غيظها نحوه قد خمد قليلًا، فـ بدت أكثر أريحية. أشاحت بوجهها بعيدًا عنه لتنظر عبر النافذة، مانعة ابتسامة من البزوغ على ثغرها، حتى استمعت لصوته وهو يقول بإنزعاج :

- ناقصة هي شغل عيال!.

ونظر إلى يده التي بُصمت بأسنانها متابعًا :

- أعمل إيه فيكي دلوقتي؟.

تعالت أصوات الأبواق من خلفه، فـ لفتت إنتباهه لإنفتاح الإشارة :

- يلا عشان الإشارة فتحت.

أصدرت سيارتهِ صوتًا مزعجًا حينما احتكت بالأرضية، وطار بها بسرعةٍ متهورة للأمام، حيث بوابة الشركة الضخمة. وما أن توقفت السيارة حتى هبطت منها "نغم"، لتسلك طريقها للداخل بدون أن تثير انتباهًا. ترك "يزيد" مفتاح سيارته للعامل كي يصفّها بمكانها، ودخل ممتعض الوجه، عابس الملامح، حتى واجه مسؤولة الإستقبال وهي تستقبله قائلة :

- صباح الخير يامستر يزيد.. العضو المنتدب في طريقه لينا وهيوصل بعد نص ساعة.

أومأ إيماءه خفيفة قائلًا :

- كويس، خلي أي حد يبعتلي تلج على مكتبي.

قطبت جبينها بإستغراب، وانتقلت أنظارها تلقائيًا ليده التي يفركها بقوة متسائلة :

- ليه سلامتك ألف سلامة.. إيه اللي في إيدك ده؟.

فـ زجرها بعصبية، وصاح في وجهها بإهتياج :

- وانتي مالك انتي؟.

وتحرك متشنجًا نحو المدخل المؤدي للمصعد، شاعرًا بتفاقم غيظه منها، ماذا يفعل معها؟. حتى إنها لا تستجيب لأي عقاب قد يفكر به، بل إنها متعندة ضعف ما كان متخيلًا. سار مندفعًا حتى بلغ مكتبها، فتفاجأ بها تشرب قهوتها الصباحية وهي تعمل على الملفات الضرورية، وكأن شيئًا لم يكن. سدد لها نظرةٍ حانقة، ولم ينبث بكلمة واحدة، بل مضى في طريقه نحو المكتب، وصفع الباب من خلفه بعنفٍ، جعلها تنتفض وهي تكتم ضحكة بجوفها، أعقبتها بتعليقها الساخر :

- أحسن، تستاهل.

****************************************

جهزت له ثيابًا نظيفة، ليرتديها فور انتهاءه من الإستحمام، كما نثرت في المحيط كله رائحة الكرز البري المنعش، وكأن الغرفة أصبحت حديقة إستوائية. خرج "يونس" من دورة المياه متعجلًا، وأردف بـ :

- أنا لازم أنزل عشان ورايا مشوار مهم.

تقدمت منه ممسكة بملابسه الداخلية وهي تقول :

- رايح لسهر؟.

تنهد "يونس" بقنوط وهو يجيبها :

- آه، أما أشوف إيه حكاية البلاغ اللي قدمته في عيسى ده، شكلنا مش هنخلص!.

بدأت تساعده في إرتداء الملابس، لتخطف بدون عمدٍ منها تركيزه الشديد على اهتمامها به :

- إيه الدلع ده!.

فـ تبسمت بدلالٍ قائلة :

- أتعود على كده بقى.

طوق خصرها وهو يميل عليها ناشدًا قربها :

- شكل كده أمي دعيتلي من قلبها في ساعة إجابة.

أطلقت ضحكة عالية حينما التصقت شفتاه بجانب ذقنها، وقد دغدغتها نوابت ذقنهِ الخفيفة، وإذ فجأة بـ باب الغرفة ينفتح على مصرعيه ويدلف إليهم "يزيد" مندفعًا :

- أنت فـين يايونـس ؟.

انتفضت "ملك" وكذلك "يونس" الذي هبّ صائحًا :

- فـي إيـه يابني هي زريبة!!.. ده انت لو إبني هتحترمني أكتر من كده وتخبط على الباب!.

تحرج "يزيد" وهو يشيح بوجهه عنهما، وهتف بـ :

- نسيت إنها مبقتش أوضتك لوحدك.. تعالى عشان عايزك.

نظر "يونس" لملابسه التي لم يرتديها بعد، ثم رفع بصره المحتقن إليه و :

- طب ألبس ولا أعمل إيه دلوقتي؟؟ .

- آه ألبس، أنا مستنيك تحت.

وهمّ ليخرج من هنا، حينما كانت "ملك" تذم شفتيها بتوترٍ وخجل، وعقبت على ما حدث قائلة بمزاح :

- ده إبنك فعلًا مش أخوك !.

نفخ "يونس" منزعجًا، وسرعان ما استعاد بعضًا من هدوءهِ، ليقول بعبثٍ :

- كنا بنقول إيه؟.

***************************************

المحيط مُلبد بالتوتر، والخوف باديًا عليها رغم محاولاتها المضنية لإخفاء ذلك. فركت "نغم" كفيها سويًا ونظراتها عالقة بالفراغ، ثم رفعت رأسها نحو "قاسم" وتسائلت بفضول :

- وحضرتك عرفت منين إن عمي جاي على هنا؟.

دعس "قاسم" بقايا سيجارته في المنفضة الزجاجية وهو يجيب :

- بطريقتي.

ثم نقل أنظاره نحوها ليتابع :

- أنا هخلصك من الموضوع ده ومش هسيب له أي ديول، أتأكدي من ده.. عشان كده أنا هنا النهاردة.

حاولت أن تبتسم بلطفٍ :

- واثقة من ده، عشان كده لجأت لحضرتك.

نظر إليها بشئ من الريبة، گمن يرغب في سبر أغوارها، ثم هتف مباشرة :

- عايز أسألك سؤال.

وكأنها استنبطت سؤاله قبيل أن يتفوه به :

- إيه؟.

طرقات عفيّة على بابها، جعلتها تقف بفزعٍ على حين غرة، فـ أوقفها "قاسم" محلها مشيرًا :

- خليكي، دي طلعتي أنا بقى.

يتبع.....