رواية لكنه لي كاملة بقلم ياسمين السيد قنديل
رواية لكنه لي كاملة
رواية لكنه لي كاملة بقلم ياسمين السيد قنديل - مدونة جوبي |
رواية لكنه لي بقلم ياسمين السيد قنديل - تمهيد
"لا تتجاهل شخصًا يهتم بك دائماً ، فإنك يوماً ما ستدرك أنك خسرت الألماس ، وأنت مشغول بتجميع الحجارة".
لم أكُن أعلم أنه سيأتى اليوم، وتتحول صداقتنا إلى حبٍ كبير أرويه بمفردى كل يوم بلُقياك.. لم يكن بحُسبانى أننى فى يوم من الأيام سيرتجف قلبى ويبلغ وجيبه أقصى مداه، فقط إذا تنعمَّت عيناى برؤياك.. لكن ماذا عنكَ أنت؟ لمَ لا تشعر بذاتِ الإحساس بل غدوتَ تبحث عمَّن تشاركه إياه؟ تُجبر نفسك على تجاهل مشاعرنا.. تجاهل مفعم بالوصال والوداد..
كُفّ عن ذلك رجاءًا، ولا تجرح المسكين قلبى أكثر..
واعلم..
أن ما يربطنا ليس بـ "حب إخوات" .
رواية لكنه لي الفصل الأول بقلم ياسمين السيد قنديل
ولكنه لي
١- فى مطار القاهرة الدولى🛩️
هبطت الطائرة القادمة من روسيا على أرض مطار القاهرة الدولى بخير وسلامة، وذلك مع ولوج أول شعاع من شمس النهار تُقبِّل أرض الكنانة، فُتح الدرج واستقر مسقطه بالأرض، ثم شرع الركاب فى النزول قبل أن يستقلوا الحافلات لتُقلهم إلى صالات المطار حيث استلام حقائبهم.
فى إحدى تلك الصالات، كان هناك خطوات واثقة لقدمين تتقدم فى ثبات، يعلوها بدلة كحلية أنيقة على كتفيها شارتين، تبرز جسدًا ذكوريًا متناسقًا، ليتبين لنا ذلك الوسيم حليق اللحية يتأبط قبعة رأسه، باسم الثغر، غزير الشعر، فاتح البشرة حتى استوقفه أحدهم:
- حمدًا لله على السلامة يا كابتن حازم.
كان ذلك أحد العاملين ببرج القيادة، فأومأ له حازم بابتسامة قائلاً:
- الله يسلمك يا كابتن سامى. شكرًا.
واستمر فى سيره حتى خرج إلى ساحة وقوف السيارات، واتجه مباشرة إلى سيارته الفارهة من طراز BMW ليجد هناك فتاة فى انتظاره فى ثياب مضيفة باللون الأزرق الغامق، تجلس فوق مقدمة السيارة بتململ وكأنها قد طال انتظارها، فتاة رشيقة، ليست صارخة الجمال، لكنها جذابة، يتلألأ شعاع الشمس فى عينيها البنيتين فينعكس منهما روح الصدق، يتوجهما حاجبان غامقان بلون شعرها الناعم المعقوص فى تسريحة إلى الخلف اختبأ تحت قبعة رأسها الصغيرة، يتناغم مع لون بشرتها الخمرية التى تنافس فى ذهبيتها سنابل القمح، اقترب حازم من السيارة وصدر صوت عن ريموت الكونترول الذى فتحها به، لاحظ التواءة شدقيها فأردف ممازحًا:
- إيه يا سُلُم، اتأخرت عليك؟
نزلت عن السيارة ممتعضة وقالت:
- وهو يعنى جديد عليك، و ياترى المرة دى مين كانت سعيدة الحظ اللى سبتنى ملطوعة علشانها.
قالتها وهى تنزل عن السيارة ودلفت إلى داخلها مستقرة بالمقعد بجانب مقعد السائق الذى يحتله حازم، فأردف بحذاقة ليهرب من الموقف:
- ملطوعة!.. طب أنا راضى ذمتك فيه بنت شيك كده، لا ومضيفة طيران كمان ما شاء الله وتقول ملطوعة؟!! تؤ تؤ تؤ.. يعنى مستوى اا...
قاطعته بحدة قائلة:
- حازم! بلاش الطريقة دى معايا، أنت عارف إنى ماباكلش من الكلام ده؟
صاح متعجبًا:
- فيه إيه يا بنتى، ده أنتِ لو خطيبتى مش هتعملى كده، أومال لو ماكنتيش البيست فريند والمفروض إن أنتِ..
- إن أنا إيه.. ها قولها ياللا ..
عدل عن كلامه وقال:
- المفروض ماخليكيش تستنى كده، أنا آسف يا سُلُم.
- سلمى. (قالت مصححة)
- بس يا بت.
- بت! أنت هتعمللى فيها طيار بقا وهتعيش فى الدور؟
- لا ما أنا طيار فعلًا.
- نيننيينينينينينى.
جز على أسنانه بغيظ هاتفًا:
- أنا مش قولتلك مليون مرة بلاش أم الحركة المستفزة دى.
- نينينينينينى.
- بقاا كده، طب وربنا لأوريكى الطيار بيعمل ايه بس على الأرض.
شغل سيارته وانطلق بها وما إن أصبحا خارج المطار حتى زوّد السرعة وأخذ يلتهم الأرض التهامًا، منتظرًا أن يسمع صرخاتها أو توسلاتها كى يبطىء من سرعته لكنه فوجىء بها تضع سماعات الأذن وتدندن بصوت عال، تفتعل حركات إيقاعية مع الأغنية التى تسمعها، مغمضة العينين بانسجام تام. أوقف سيارته بغتة باسبهلال، ففتحت عينيها تنظر إلى الطريق حولها، أنزلت عن أذنيها السماعات ورمته بنظرة استغراب قائلة:
- إيه ده وقفت هنا ليه؟
كان يحدق بها بحاجبين مرفوعين وفاه مفتوح شدوهاً ثم أردف:
- أنتِ إيه يا بت.. مفيش خالص؟ واحدة غيرك كان زمانها قالبة العربية صريخ.
سقط فكها للأسفل وقالت باحتجاج:
- ليه يا بابا، أنتَ بس اللى بتركب طيارات، ما أنا مضيفة وكل يوم ف الجو، هخاف من شوية سرعة هبلة زى دى.
فوض أمره لله وتنهد يشغل السيارة قائلاً: لا عندك حق ثم اخذ يتمتم بسره: راكب مع دكر جنبى.
- بتقول حاجة يا حازم؟
- بقول شغلى لنا حاجة نسمعها ماتسمعيش لوحدك.
أومأت موافقة وأوصلت هاتفها بمذياع السيارة وقامت بتشغيله لتنطلق منه أحد المهرجانات الشعبية " لو خايف روح نام، خلص الأمر وطير يا حمام... "
واندمج كل منهما فى الأجواء يتراقصان بمقعديهما ويصفقان ويضحكان من قلبيهما، غريبة هى تلك المهرجانات، فهى مزعجة بحقٍ ولا تخضع لقوانين الموسيقى بأى شكل من الأشكال ولكنها مع ذلك تضفى بهجة غير طبيعية وبإمكانها تبديل الأجواء كما أنها لم تعد تقتصر فى معجبيها على الفئة الشعبية فقط بل والطبقات الراقية على حد سواء، ترى أين العيب فى ذلك، هل هو اندثار الذوق والحس الموسيقى لدى الناس أم تقصير من القامات الفنية الكبرى، أم أنه لون جديد فرض بهجة لم يلقاها المرء فى لون فنى آخر وعليه تقبله بصدر رحب، لا أدرى.
توقفت السيارة أمام فيلا ذات وِجهة يطغى عليها اللون الرمادى ممزوجًا ببعض الزخارف السوداء والبيضاء فى تجمع سكنى (كومباوند) بالشيخ زايد وكان ذلك منزل سلمى، فنزلت عن السيارة وأخذت حقيبتها بينما أردف حازم:
- سُلُم، إيه الـ plan بتاعتك النهاردة؟
تثاءبت وقالت بنبرة ناعسة:
- هلكانة، هموت وأنام، لما أصحى هشوف، وأنت؟
رد بنبرة آلية وكأنه صدى صوتها:
- هلكان، هموت وأنام، لما أصحى هشوف.
ندت عنها ضحكة خافتة إثر تقليده لها، فاستطردت مجاكرة وهى تخبط بيدها على سيارته:
- طب زق عجلك بقا.
- طب ماتزقش، سواق الهانم أنا.
ضحكت ودلفت إلى منزلها بعدما رمقته بنظره هائمة أخيرة. تحرك حازم بسيارته لكن إلى الخلف مسافة ستة أمتار تقريبًا ليتوقف أمام منزله المشابه تمامًا لمنزل سلمى؛ فسلمى وحازم جيران منذ نعومة أظافرهما، وترعرعا سويًا وأتموا دراستهما من الإبتدائية حتى الثانوية معًا ولم يفترقا، كان رابط الصداقة بينهما قويًا إلى درجة كبيرة، درجة جعلت كل واحد منهما يعطى نفسه الحق فى إمتلاك الآخر والطرف الثانى بدوره لم يبدِ اعتراضًا، فقد كانت سلمى وحيدة أبويها وهو لم يكن لديه إخوة فكان كلٌ منهما رفيق درب الآخر ويعوضه عما ينقصه ولا سيما هى، فكان يمثل لها الصديق والأخ حتى باتت تراه أكثر بكثير من هاتين الصفتين، بات يشكل لها روحًا إن انتُزعت منها، صارت خواءً.
دلف حازم إلى منزله عابرًا الفناء الخارجى، ثم فتح باب المنزل ودلف حيث الرواق الفسيح المزدان بالأطر الفخمة و الأثاثات الراقية الباهظة الثمن وعلى يمين الباب درج مسور بدرابزين زجاجى شفاف من الجهتين، يؤدى إلى الطابق العلوى والذى كانت تهبطه سيدة ناعمة الملامح، ذات بشرة غضة بضة، متوردة الوجنتين، تمتلك عينين عسليتين تندلع منهما الطيبة والتحدى على حد سواء، أنيقة، سمينة بعض الشىء لكنها كانت تبدو متألقة فى زيّها الأسود المطعم بدبوس من الماس واكسسوار فضى رقيق يتدلى من عنقها، يغطى رأسها حجاب أسود من الطراز "تربون" مطعم باللون الفضى البسيط، يبرز إشراقة وجهها، كانت تلك إكرام والدة حازم، والتى هتفت بحماسة ما إن رأته:
- آه أنت جيت، حمدًا لله على السلامة يا حبيبى.
ارتقى بعض درجات السلم حتى وقف قبالتها قائلاً:
- الله يسلمك يا حبيبتى، اتأخرتى شوية على المدرسة النهاردة مش كده.
- آه للأسف راحت عليا نومة. ياللا يا حبيبى عايز حاجة.
- سلامتك، خلى بالك من نفسك.
- حاضر ياحبيبي.
قالتها وقد هبطت الدرج عن آخره ثم استطردت متسائلة:
- صحيح، هى سلمى جت معاك ولا هى رحلتها لسه ماوصلتش.
- لا وصلت وجت معايا وزمانها بتاكل رز مع الملايكة دلوقتى، سيبينى بقا أنا ألحق السرير.
قالها متثائبًا؛ فضحكت إكرام تهز رأسها وهى تفكر فى أمرهما وتمتمت فى سرها " ياريتك يا ابنى شايف اللى انا شايفاه "
غالبًا ما تكون نظرة الأم فى الحياة مختلفة عن أبنائها رغم اختلاف الأجيال إلا أن خبراتها لا يخضع لها تغير الزمن فقد يدور الزمن ويدور ثم يعود إلى مربطه مرة أخرى، فكانت إكرام ترى بإبنها ما لم يره بنفسه، أو ربما لم يفهمه بعد نتيجة اعتياده على الأمر، وهى إكرام مديرة مدرسة خاصة للمراحل الثلاثة التعليمية، مربية الأجيال، ألن تفهم ابنها تربية يديها، وإلى أى مجرى تؤؤل حياته! لقد توفى والده حيثما كان حازم فى سن العشر سنوات، وهى من ربته هو وأخاه الأصغر، الذى يصغره خمس سنوات ويدعى أحمد، تزوج أحمد منذ سنتين من فتاة ناعمة رقيقة، كانت رفيقته فى الجامعة وتدعى صفا، منذ ذلك الحين وباتت صفا الصديقة المقربة لسلمى أيضًا.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الثاني بقلم ياسمين السيد قنديل
٢-بيت مجانين 👻😂
بعد مرور عشر ساعات، وبينما كانت سلمى تغط فى نوم عميق، تتدثر بلحافها والوسادة من فوق رأسها، تشبه فى نومتها البجعة الطائرة فتنكب بوجهها فى الوسادة أسفله، وتُلقى بذراعيها وساقيها حتى أطراف الفراش، نومة عجيبة بحق.
وقتئذ كان هاتفها موضوعًا على الكومود بجانبها يستغيث من الاتصالات المتكررة، لكنها أخيراً فاقت من غيبوبتها ومدت يدها ومازالت على هيئتها ولم يرف لها جفن، ضغطت زر الرد ووضعت الهاتف على أذنها قائلة بصوت نائم: ألو.
أتاها صوت المتصل مستجيرًا:
- ألو! يا شيخة حرام عليكى، ده أنا لو بصحى ميت، كان زمانه صحى.
ظل منصتًا لبضع ثوان كى يسمع ردها أو تبريراتها لكنه لم يسمع سوى صوت أنفاسها، فصاح بنفاذ صبر يمسح بكفه على وجهه بغيظ:
- يختااااى! أنتِ لسه هتكملى نوم؟!
استفاقت فجأة قائلة:
- لا أنا معاك.. أهو معاك.
- آه، لا ما هو واضح إنك معايا، طب بصى يا بنت الناس، الشلة هتتجمع فى مركب سيسليا وأنا رايح، هتصحى وتيجى ولا أروح لوحدى؟
وثبت من مكانها فجأة تبحث عن نعلها المنزلى، وكأنها لم تكن تحت رحمة سلطان النوم قبل ثوانٍ، قائلة:
- أنا بلبس أصلا يا معلم.
ضحك حازم فأجبرها على الابتسام قائلاً:
- أيوا كده، الساعة 6 بالتمام تكونى جاهزة.
- اشطا.
- اشطا، باى.
استعدت سلمى وألقت على نفسها نظرة أخيرة بالمرآة وأرسلت لنفسها قبلة تدلل نفسها "والله قمر "، ثم هبطت إلى الطابق الأسفل تقفز الدرج بمرح، وركضت نحو والدها الذى كان يجلس منهمكًا فى لوح الرسم الإلكتروني خاصته واحتضنته من الخلف وطبعت قبلة على خده هاتفة:
- مساء الفل على أحلى فنان فى الدنيا.
ابتسم سليم قائلا:
- أهلا أهلا، مساء الجمال على وردتى الجميلة، كل ده نوم يا بنتى انا مارضتش أقلقكك من النوم علشان ببقى عارف إنك راجعة تعبانة، بس بتوحشينى أعمل إيه، شغلك واخدك منى.
ضحكت ولفت لتجلس إلى المقعد بجانبه:
- يا بابا يا بكاش، شغل إيه ده اللى يقدر ياخدنى منك، ده أنت الخير والبركة.
حدجها بنظرات معترضة قائلاً:
- خلاص.. بقيت بركة، طب قومى قومى شوفى رايحة فين.
انفرج فمها عن أسنانها البيضاء وجلجل صوتها فى ضحكة لئيمة، وقالت بخبث:
- عادى يعنى يا بابا ما طنط إكرام بردو بنقولها إنها الخير والبركة ومابتزعلش كده.
رد محتجًا:
- ده علشان أنتى قليلة الذوق، مدام إكرام دى ليدى شيك، برنسيس، وست ناجحة، تعرف امتى تبقى رقيقة وامتى تبقى أم حنونة وامتى تبقى مربية ومديرة مدرسة شديدة...
زمت فمها فى ابتسامة وأسدلت رأسها لتستند على يدها قائلة بنبرة هائمة ساخرة:
- اممم وإيه كمان يا سنيور سليمووو!
حمحم الرجل بحرج وأردف:
- بس يا بنت، إيه اللى... أنا، أنا بقول كلمة حق مش أكتر.
- امم ولما ده رأيك عنها بتناقروا فى بعض دايما ليه ولا...
تجهم وجهه يزوغ بناظريه عن ابنته وكأنه مراهق يخشى نظرات والده وقال بهتاف:
- ولا إيه يا قليلة الحياء، وبعدين هى اللى حاطة نقرها من نقرى، أنا راجل فنان بحب الطبيعة وبحب أقعد كده أتأملها أرسمها، بيضايقها فى إيه ده و.. و.. والأرنب بتاعتها ده كمان بيبوظ الزرع بتاعى اللى أنا تعبان فيه، المفروض إنها ماتنساش إن الجنينة مشتركة يعنى ليا فيها زى ما هى ليها بالظبط.
كانت تستمع إليه سلمى وهى تتأمله بوجه باسم، تفهم ما يجول بخاطر والدها وتستمتع بمناورته بين الحين والآخر فكادت ترد عليه لولا أن قاطعها رنين الهاتف، فتمتم والدها بحنق:
- ردى ع الغندور.
ضحكت ملء فمها وردت فأجابها حازم بصياح:
- إيه يا بنتى فينك كل ده أنا واقف مستنى بالعربية.
- ما بالراحة ياعم يعنى واقف مستنى فى الشارع ما الباب ف الباب..
تمتم والدها وقد تغيرت قسماته إلى الاستغراب " لا مايتخافش عليكى.. ده هو اللى ربنا يتولاه"
فتابعت سلمى:
- خلاص جاية أهو ماكانوش خمس دقايق.
أغلقت معه ونهضت ترتدى حقيبة ظهرها الصغيرة ريثما تساءل والدها:
- و على فين العزم إن شاء الله.
- خارجين مع أصحابنا يا بابا، هنتقابل فى سيسليا فى النيل.
- طب خلى بالك من موبايلك وطمنينى عليكى وإياكى أتصل وماترديش عليا.
قبلت جبهته قائلة:
- حاضر يا حبيبى.
ثم ألقت نظرة على لوحه الالكترونى وقالت:
- صحيح إيه الرسمة دى يا بابا؟
- دى رسمة ساخرة عن الستات النكدية.. شبه أمك الله يرحمها صح؟
- حرام عليك يا بابا، دى ماما كانت زى القمر.
- وهى لو ماكنتش قمر، كنت أتجوزتها؟!
ضحكت سلمى تهز رأسها باستنكار ثم ودعته وغادرت.
سليم والد سلمى، فنان تشكيلى متقاعد، مولع بالفن الساخر وينشر أعماله الساخرة على المواقع الإلكترونية وفى الجرائد والمجلات أيضًا، توفت زوجته منذ أكثر من عشرين عامًا حينها كانت سلمى فى عامها العاشر، وتأثرت نفسيًا بفراقها لأعوام طويلة وربما حتى هذه اللحظة لكن مشاغل الدنيا تلهيها عن حزنها، كما عامل الوقت يعطى للجراح فرصة أن تندمل، ووالدها لم يقصر معها قط؛ فأحاطها بحبه وشملها برعايته وحنانه، وبات يلعب لها دور الأم والأب وإن أهلكه ذلك مع تقدم عمره، لكنه لم يفكر ذات مرة بأن يتزوج بأخرى كى لا يجرح مشاعر وردته ويعرف كم أنها حساسة ورقيقة خلاف ما تظهر عليه. فأضحى كل منهما ونيس الآخر، واهتمامه الأكبر فى الحياة.
خرجت سلمى من البوابة الرئيسية للمنزل وخطت بضع خطوات قبل أن تلتقى بصفا والتى ما إن وقع ناظراها عليها حتى رنت ضحكاتها مجلجلة، إذ بها تقف بجانب سيارة زوجها تمسك بيدها إحدى أدوات الميكنة والشحم الأسود يلطخ جبينها ووجنتيها، كانت صفا حسنة الطالع، دمثة الوجه، ذات عينين بنيتين وبشرة بيضاء شاهقة وأنف دقيق وفم واسع قليلا لكنه رقيق، يزين وجهها القلبى الشكل، شعر صبغته باللون الاحمر الفاتح أقرب منه إلى الأشقر، وقفت تمسح وجهها بحنق بينما بادرت سلمى من بين ضحكاتها:
- إيه اللى جابرك على كده يا بنتى، والله أنتِ بتصعبى عليا.
قلبت صفا فمها فى تذمر تفتعل البكاء بمزاح قائلة بقلة حيلة:
- أعمل إيه يا بنتى حكم القوى.
قالتها وضربت بقدمها الجرار تحت السيارة بغيظ تجز على أسنانها؛ فخرج من تحت السيارة شاب يغطى وجهه الشحم وكان ذلك أحمد قائلا:
- ماتخبطينى أنا أحسن، ياللا ناولينى مفتاح شق.
أخرجت من الصندوق أحد الأدوات وأعطته له فنهض وقال بعصبية:
- يا صفا يا صفا، امتى هتتعلمى، بقول مفتاح شق، ده مفتاح بوكس، قوتلهالك 3 مرات لحد دلوقتى.. هاتى.
كورت قبضتها بغلٍ وتمتمت فى سرها " والله أنت اللى عايز تاخدلك بوكس يظبطلك دماغك " بينما قالت بصوت عال يغلفه السخرية الممزوجة بالضجر:
- معلش أصلى ماشتغلتش صبى ميكانيكى قبل كده.
قال باستعلاء مصطنع:
- ياللا أدينا بنكسب فيكى ثواب وبنعلمك حاجة للزمن.
ارتفع حاجبي صفا بإندهاش من ردوده التى تثير استفزازها بينما تابع أحمد عمله بالسيارة، أحمد شاب وسيم يمتلك من المرح مايؤهله لسلب قلوب الفتيات، وهو مهندس ميكانيكا وذلك ما يفسر عشقه للسيارات وتصليحها بنفسه بالرغم من أن ذلك يتكلف عناءً الآخرين، كانت سلمى غارقة فى الضحك، فربتت على كتف صفا بشفقة ودلفت إلى الداخل حيث وجدت إكرام تجلس فى الحديقة تتصفح موقع التواصل الإجتماعى وحالما رأت سلمى، ابتهجت وتهللت أساريرها هاتفة:
- أهلا يا حبيبتى تعالى.
- مساء الخير يا طنط.
- مساء النور يا حبيبتى، أنتوا خارجين ولا إيه؟
- خارجين! هو حازم لسه ااا..؟! وعمال بس يصوتلى فى التليفون انا مستنى ومشغل العربية، آه يا ابن ال...
قطع استرسالها صوت أتاها من الأعلى، فارتفعت ببصرها لتراه واقفًا فى النافذة يُفرِّش أسنانه قائلا:
- اشتمى اشتمى علموكى كده فى بلدك تشتمى.
صاحت به:
- والله خسارة فيك الشتيمة، أنت مش هتبطل العادة دى، هو مين اللى المفروض يستنى مين!
- اقعدى انتِ لوكّى كتير كده، اصبرى خمس دقايق وأنزل لك.
ودت لو بإمكانها الإمساك به فحاولت التحكم فى أعصابها وأغمضت عينيها وأحكمت قبضتها ثم أخذت نفسًا عميقًا تتمتم " استنى واتأنى وارجع واوعاك يا طربش تطلع "
ضحكت إكرام وهى تقزقز اللب وسألتها:
- تعويذة دى يا بت ولا إيه؟
- أعمل إيه بس يا طنط أنتِ مش شايفة، إبنك يجنن العاقل.
بعد دقايق انضمّ إليهما حازم فى زى كاجوال فكان يرتدى تيشرت رمادي وبنطال من الجينز، خرج إلى السيارة تتبعه سلمى وقبل أن يصلا إلى السيارة ألقى نظرة على سلمى وكانت ترتدى بنطالا وسترة من الجينز وتيشرت أبيض وتعقص شعرها للخلف فى تسريحة سنبلة، فهتف ليستفزها:
- خارج مع حنفى الأبهة أنا.
ضربته بقبضتها فى كتفه وقالت:
- نينينينينينيني
توقف عند باب السيارة وأردف بنبرة حازمة:
- سلمى، وربنا المرة دى أعمل بيكى حادثة أو أقولك مش مركبك أصلا.
فتح السيارة وركب وأغلق بابها من الداخل فأخذت تطرق الباب بغيظ بينما يتمتم لها بحركة الشفاه من خلف الزجاج " say sorry " لكنها فتحت فمها أقصى مداه تنم عن دهشة وقالت بحركة الشفاه أيضًا " لما تعض قفاك "
ارتفع حاجبه وأشار برأسه بما معناه " بقا كده؟! " ثم شغل السيارة و انطلق بها؛ فشهقت ووققت تنفث الدخان من أذنيها تضع كلتا يديها فى جانبيها لكنه ما لبث أن عاد بظهره مرة ثانية فارتفع ذقنها إلى الأعلى وزمت فمها بضجر وعقدت ذراعيها أمام صدرها متقمصة دور الغاضبة ذات الكبرياء ببراعة ففتح الزجاج وقال لها مشاكسًا:
- خلاص اركبى صعبتى عليا.
هزت رأسها بعناد وقالت:
- لا شكرا مش هركب مع واحد زيك.
- يا بنتى اركبى قبل ما أغير رأيى.
- قولت لأ يعنى لأ.
- خلاص أنتى حرة..
كاد يتحرك بالسيارة فأوقفته قائلة:
- إيه هو ده، أنت مش هتتحايل عليا.
- ليه إن شاء الله خطيبتى ومضطر استحمل هرموناتها ولا حاجة؟
تمتمت فى سرها تخبىء وجهها بكفها "يسمع منك ربنا"
أشار لها باصبعه قائلا:
- بتغلطى صح؟ أنا قلت أمشى ..
وقبل أن ينتهى من كلمته كانت قفزت إلى جانبه بالسيارة فضحك وشغل السيارة متابعا قيادته.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الثالث بقلم ياسمين السيد قنديل
٣- مركب سيسليا ⛵
وصل حازم وسلمى إلى كورنيش النيل، حيث تستقر مركب سيسليا، وألقيا السلام على العامل بالخارج وقطعا تذكرتين، ثم هبطا الدرج المؤدى إلى جسر خشبى يصل بين البر والمركب فعبراه ودلفا إلى داخل المركب، وكان مؤلفًا من ثلاثة طوابق يغمرهم درجات متفاوته من اللون الموف والرمادى ينعكس عليها إضاءات المكان الخافتة والمختلفة ألوانها لتشكل ديكورا مميزًا: الطابق الاول وهو الاستقبال ويحوى عددًا كبير من المقاعد والطابق الثانى عبارة عن كافيتريا و مطعم أو كما يطلقون عليه أوبن بوفيه وهناك فرقة موسيقية ومطرب يعزفون ويغنون، والطابق الثالث وهو سطح المركب وبه بعض الطاولات ومقاعد الشازلونج ولكن فى ذلك الطقس البارد كان يفضل رواد تلك المركب الطابق الأول والثانى حيث التدفئة.
صعدا مباشرة إلى الطابق الثانى حيث يجتمع أصدقاؤهما، وما إن وقع ناظريهما عليهم غمغمت سلمى باستياء:
- يييي، مش كنت تقوللى إن رانيا الصفرا جاية معاهم.
- شىء بديهى يعنى إنها كانت هتيجى طالما ماجد جاى.
- والله بتصعب عليا، بتشترى سمك فى مياه.
- قصدك إن ماجد مش ف دماغه؟
- عندك شك فى كده، وبصراحة هو يستاهل حد أحسن من الصفرا دى، ربنا يعدى اليوم على خير.
ضحك قائلا:
- فكك منها واعملى نفسك من بنها.
- يا ابنى ولا فى دماغى أصلا، هى اللى حطانى فى دماغها مش عارفة ليه..
اقتربا من الجمع وصافحاهم وكانوا سبعة أشخاص ثلاثة شباب "ماجد، وعاطف ومحمد" وأربع بنات"رانيا، وأمنية، ورضوى، وسهايلة". وضعت سلمى حقيبتها على مقعدها وقالت لحازم:
- أنا جعانة هقوم أجيب أكل، أجيبلك معايا.
- لا شكرا أنا اتغديت.
ذهبت سلمى إلى منطقة الأوبن بوفيه وانطلق فى أثرها ماجد مما دعا حازم إلى الاستغراب قليلًا لكنه لم يعط الأمر اهتمامًا كبيرًا بخلاف رانيا، تلك التى كانت تحدق نحوهما بغلٍ دفين، فانتبه حازم إلى السُميِّة المتأججة بنظراتها فعاد ببصره ثانية نحو ماجد وسلمى ليجدهما يتحدثان ويضحكان بينما يغرفان الطعام، الأمر طبيعى وليس به ما يدعو إلى تلك النظرات القاتلة، فمطّ شفتيه استهجانًا، وجعل يتحدث مع رفاقه، فتساءلت سهايلة:
- صحيح يا عاطف، هنفرح بيك امتى أنت وندى؟ وماجتش معاك ليه النهاردة.
فعلَّق حازم:
- آه صحيح يا ابنى مش كفاية كده بقالكوا 3 سنين مخطوبين.
رد عاطف متنهدًا وهو يغوص بمقعده:
- إيه حيلكم حيلكم، ماجتش معايا النهاردة ليه.. ببساطة لأننا متخانقين، أما موضوع تفرحوا بينا ده أنا مش متأكد منه.
حازم بحاجب مرتفع:
- يعنى؟!
زفر عاطف وكأنه يرمى عن كاهليه حملًا ثقيلًا:
- يعنى مش عارف ازاى هنكمل حياتنا كده، احنا ليل ونهار بنتخانق زى ما نكون بنتلكك لبعض.
حازم وهو يتجرع بعض الماء:
- آااه، لا دى حاجة صعبة اوى.
عقّب محمد قائلا برزانة:
- ولا صعبة ولا حاجة، مفيش علاقة بتخلو من المشاكل والخناق، المهم يعرفوا ازاى يحلوا مشاكلهم، لو كل واحد فهم التانى صح واتعامل معاه على أساس دماغه وتفكيره الدنيا هتمشى.
رد حازم مستهجنًا الفكرة:
- بس دى حاجة تقيلة أوى إن الواحد مايتعاملش بطبيعته ويعمل حساب دماغ الطرف التاني فى كل كبيرة وصغيرة، دى تبقى علاقة متعبة وعدمها أحسن.
رد محمد:
- شر لابد منه. وعامة أنا بقول ان ده من الذكاء إنه يحصل بس طبعا مفيش حد بيعمل كده إلا من رحم ربى وعلشان كده مفيش بيت خالى من المشاكل للاسف وكله رايح محكمة الأسرة فى الآخر، فكبر دماغك.
ضحك حازم معقبًا:
- قنبلة تفاؤل.
- ما أعمل لكوا إيه كده مش نافع وكده مش نافع.
تمتم عاطف، وكأنما يفكر مع نفسه:
- كده مش نافع وكده مش نافع.صح.
رد حازم:
- بقولك إيه فكك من الهرى والكلام اللى بنقوله بهزار ده،أنت بتحب ندى وندى بتحبك وبقالكوا سنين مع بعض بلاش بقا تخسروا بعض علشان شوية خناقات بين أى اتنين، يعنى أنا وسلمى مثلا بن...
توقف عند ذكره لسلمى مستغربًا " إيه اللى أنا بقوله ده، إيه دخل علاقتى بسلمى بعلاقته مع خطيبته "
ثم تابع قائلا:
- أنا أقصد.. إن ده طبيعى..بس يعنى.
- هو إيه ده اللى طبيعى؟
تساءلت سلمى عن آخر ما التقطته أذنيها قبل مجيئها، وجلست بجانب حازم بينما علَّقت الحقيبة على ظهر الكرسى، فنظر حازم إلى طبقها ثم قال مجاكرًا:
- يخرب عقلك، إيه ده كله، هتاكلى ده كله لوحدك؟ ودلوقتى؟ قال وهو ينظر بساعته.
رمقته بحاجب مرتفع وقالت:
- أنا ماكلتش حاجة من الصبح، جعااانة.
- ماتيجى تاكلينى أحسن.. بالهنا والشفا يا ستى.
ما كاد يرفع رأسه عن وجهتها حتى لمح ماجد الجالس قبالتهما يعبث بطبقه بلا إدراك مثبتًا ناظريه على سلمى، جفل حازم وتغضن جبينه مستفهمًا فى نفسه عن نظراته الغبية تلك، هل كانت رانيا على حق أو أنها أدركت أمرًا لم يكن يراه، رانيا! حرك بصره مقعدًا واحدًا ليتبينها وهى تغرز شوكتها بغلٍ فى قطعة اللحم الموضوع أمامها، وتبدل نظراتها ما بين ماجد الجالس بجانبها وسلمى التى تقابلها.
بدا الأمر مغايرًا، و شرعت الأجواء تتلبَّد بالتوتر والحقد، فحاول حازم انتهاك حصون تلك النظرات الخفية المتوارية خلف غلاف الود، وحمحم قائلاً لماجد:
- صحيح يا ماجد، إيه أخبار شغلك الجديد فى شركة المقاولات؟
انتبه ماجد وصحا من غفلته مرتبكًا؛ فقضم قطعة من الكيك الإنجليزى الذى أحضره ثم قال:
- امم، يعنى هو مش زى الشغل القديم فى المرتب بس على الأقل مرتاح فى الجو العام.
ابتسم حازم قائلا:
- ده المهم، أهم حاجة فى الشغل الراحة مع الناس اللى شغال معاهم، دى أهم من المرتب نفسه.. النفسية!
حينذاك أردفت رضوى قائلة:
- عندك حق.. أنا فى شغل الأكاونت الأولانى كنت مرتاحة فيه جدا واتصاحبت على الناس هناك بس لما جاتلى فرصة شغل بمرتب أعلى وسبت شغلى الأولانى ندمت جدا لأنى مارتحتش فى معاملة الناس فى الشغل الجديد والـ HR يا ساااتر مايتوصاش فى الغتاتة.
ضحكوا جميعًا بينما قالت رانيا:
- وأنتى بقا يا سلمى؟
ما إن سمعت سلمى اسمها، امتقع وجهها تبرطم فى سرها "يادى النيلة، مش هنخلص النهاردة" بينما تابعت الأخرى:
-اكيد مبسوطة فى شغل المضيفة، يعنى بتسافرى من بلد لبلد، بس نصيحة منى كمية الأكل دى هتتخنك وده ممكن يعمل لك مشكلة ف شغلك.. ماتزعليش منى أنا بتكلم لمصلحتك.
احتقنت الدماء بوجه سلمى وكادت تندفع بالرد لكن استوقفها انطلاق صوت حازم قائلاً بنبرة هادئة:
- سلمى مايفرقش معاها الكم اللى بتاكله، لأنها شخصية رياضية وبتلعب رياضة بشكل منتظم فمعدل الحرق عندها عالى.. آه ومش بس كده دى كابتن kick boxing كمان يعنى مايتخافش عليها.
وكأنه بين طيات كلامه كان يبعث إليها برسالة تحذيرية، فضلًا عن إخفاق مساعيها لتعكير مزاح سلمى وقد بدا أن مجهوداته تكللت بالنجاح؛ فقد بدا الرضا على وجه سلمى وهى تلتقط قطعة لحم من شوكتها بتعاظم.
دلفت سلمى إلى المرحاض لتغتسل وتعدل من زينتها، ثم عادت يعلو ثغرها بسمة مرحة تعكس طبيعة روحها ثم اتخذت مجلسها وجاء من خلفها حازم يمسك بكوبين من الشراب الساخن ومدَّها بأحدهما قائلا:
- اتفضل يا سُلُم الكابتشينو بتاعك.
تناولته منه شاكرة، وجلسوا يستمتعون بالعزف على الأغانى الاوروبية ولطالما كانت سلمى مولعة بعزف الجيتار وكان عزف العم نعمان ينال رضاها فهتفت بحماسة بعد أن أطلقت صفيرًا مشجعًا:
- الله عليك يا عم نعمان يا جامد.
ابتسم لها الرجل محييًا متابعًا عزفه، فكان يعزّها هو الآخر ويكن لها بقلبه من محبة الابنة وبعد أن انتهت تلك المعزوفة نهضت سلمى وتحركت صوب العم نعمان وأخذت تتحدث إليه وحازم يراقبها من بعيد محاولًا فهم مجرى حديثهما لكن عبثًا، حتى أرادت هى أن تفصح للجميع؛ فجذبت انتباههم قائلة:
- طب يا جماعة give me your attention please! اتفقت أنا وعم نعمان هنعمل زى مسابقة كده فى عزف الجيتار، هو هيبدأ عزف كوبليه من أغنية وأنا أكمل بمعزوفة تتماشى مع اللى عزفها وهكذا لحد ما حد فينا يقف ومايعرفش يكمل وقتها التانى هيبقى الكسبان.. موافق على التحدى يا عم نعمان.
رد نعمان بابتسامة حييّة: موافق يا ست البنات.
ضحكت وتناولت جيتارًا تقول له بصوت خافت:
- هتتقطع النهاردة يا عم نعمان.
فضحك الرجل وشرع بالعزف، وكانت من أغنية Havana، فأخذت سلمى تستمع بأذن موسيقية تتنبأ بلحظة توقفه وتفكر فيما ينبغى عليها عزفه، بينما غمغمت رانيا لأمنية صديقتها " لازم تعمل شو، تموت لو ماجذبتش الانتباه " فأردَتها أمنية بنظرة هازئة غير راضية عن حديثها العاطب. أتى دور سلمى لتواكب العزف فانطلقت أصابعها على الجيتار برشاقة تعزف مقطع من أغنية Despacito، هنا رفع حازم صباعه الإبهام مشجعًا فارتسمت البسمة على مُحياها، وفى اللحظة ذاتها أطلق ماجد صفيرًا طويلاً، ووقف يشجع بحماس كبير، فنظر إليه حازم بإندهاش، يعتلى حاجباه جبهته ولا يدرى ما الذى جعله يغضب ويضيق به المكان بما رحب، شعر برغبة عارمة فى الإمساك بماجد وضربه حتى يطرحه أرضًا، هز رأسها يحدث نفسه
" إيه اللى بتفكر فيه ده.. عايزنى أفكر إزاى مش شايفه بيبص لها ازاى دى ولا كأنها عشيقته.. إيه اللى بتقوله ده، لا طبعا ماجد صاحبنا من زمان ومش من النوع ده، الظاهر إن رانيا أثرت على تفكيرك، فوق كده ماتخسرش أصحابك علشان الهبل ده.... "
ظل يصارع تفكيره طويلًا حتى أخرجه من شروده توقف العزف وصياح وتصفيق وهتفت سلمى بمرح:
- مش قولتلك يا عم نعمان إنى هكسبك.
فضحك الرجل قائلاً برضا:
- ياريت كل الخسارة تبقى حلوة كده.
فضحكت بإمتنان بينما سارع نحوها ماجد قائلا:
- عزفك كان يجنن وبروفيشنال، ماكنتش أعرف إنك موهوبة فى الموسيقى كمان.
ضحكت بتردد وهى تحك كفيها ببعضهما من البرودة وأردفت:
- شكرًا يا ماجد، ده من ذوقك.
فرد بتردد:
- امم طب أنا كنت عايز أكلمك فى موضوع.
- آه اتفضل.
- لا الجو هنا مش مناسب، ما إيه رأيك نطلع نتكلم فوق بعيد عن الدوشة.
قطبت جبينها حيرة تفكر فى ماهية ذلك الموضوع الذى يريد أن يحادثها فيه بعيدًا عن الجميع، فكرت أن ترفض لكنه بادرها بإلحاح قائلًا:
- صدقينى مش هناخد دقيقتين.
- الموضوع مهم أوى يعنى؟
- جداا فوق ما تتخيلى.
مطت شفتيها بدهشة ثم قالت:
- أوك، اتفضل.
رمقهما حازم بتعجب حالما شرعا فى ارتقاء الدرج للطابق الثالث، يسأل لسان حاله " هما رايحين فين دول؟ "، ولم يلبث أن نهض من مكانه ينذره قلبه بحدوث أمر خاطىء هاته الليلة، لا يدرك من أين يأتى ذلك الخطأ بالضبط أو ما الذى يثير غضبه الذى بدأ يشن ثورةً بداخله، هل هو شعور تملك صديقته، هل يغار أن تتوتد علاقته بصديق آخر فيصبح هو على الهامش؟ ربما!
همَّ باللحاق بهما حالما استوقفته سهايلة قائلة بغنج:
- حازم، صحيح رقمك ضاع من عندى، خد سجلهولى.
مط حازم فمه فى نصف ابتسامة وأمسك هاتفها ببال شارد فى مكان آخر بأعلى المركب، كتب لها رقمه ثم أعطاها الهاتف، وسارع فى الصعود إلى الأعلى.
حينئذ كانت سلمى تقف مستندة بظهرها إلى سياج السفينة منتظرة سماع حديثه الشائك ذاك، لكنه قد مضى على وقوقفهما خمس دقائق ولم يقل شيئًا مفيدًا ناهيك عن التبسم الأحمق بين الفينة والأخرى، يبدو عليه التردد الشديد يفكر فى نفسه" إيه اللى أنا عملته ده، ماينفعش أقول لها كده خبط لزق، بس أعمل إيه؟ اممم، اه حازم! ازاى ماجاش على بالى الفكرة دى، الأفضل إنى اكلمه وهو يكلمها يجس نبضها ويعرف رأيها... "
بترت عليه سيل الأفكار ذلك بحديثها:
- إيه يا معلم، قولتلى موضوع مهم ودقيقتين وبقالنا هنا أكتر من خمس دقايق ماقولتش كلمة واحدة توحد ربنا.
رفع حاجبيه دهشة من حديثها الذى طالما يثير إعجاه بالرغم من أنها لا تشكل بذلك فارقًا بينها وبين أصدقائه من الشباب فابتسم وقبل أن يتذرع الحجج فوجئا بمجىء حازم قائلا:
- سلمى! مش ياللا بينا؟
نظرت إلى ساعة يدها بتعجب وقالت:
- دلوقتى ده المركب لسه ماتحركتش؟
صاح بانفعال:
- ياللا بقا..
وجذبها من يدها يحثها على السير خلفه بعدما ربت على كتف ماجد قائلا:
- سلام يا ماجد.
استوقفه ماجد قائلا:
- بس أنا كنت عايزك فى موضوع...
- بعدين بعدين.
وترك يد سلمى التى كانت تنزل خلفه الدرج الضيق حتما أضحيا فى الطابق الأول فسألها دون أن يلتفت إليها:
- كنتوا بتعملوا إيه فوق، وكان عايز منك إيه؟
عقدت حاجبيها باستغراب من سؤاله وكأنه يتقصد من ورائه شيئًا، لكنها ردت باقتضاب:
- ولا حاجة .
كانا حينذاك على الجسر الخشبى عندما توقف بغتة والتفت إليها غاضبًا؛ فتفاجأت وتوقفت قبل أن ترتطم به لكن خانتها ساقها وكادت تسقط محاولة التمسك بالحبل السميك الذى يمثل سورً للجسر فالتقط ذراعها الآخر، وجذبها نحوه؛ فاعتدلت، لكن غضبه مازال متأججًا وظهر واضحًا فى نبرته :
- هو إيه اللى ولا حاجة، بسألك تردى.
تغضن وجهها باضطراب متفاجئة من ردة فعله الغربية، لكنه زاظ اضطرابها أكترر بقربها منه؛ فابتعدت قليلًا وقالت:
- في ايه يا حازم لكل ده، هو قاللى عايزك فى موضوع مهم ولما طلعنا سكت ومانطقش لحد ما أنت جيت.
أحس حازم أنه كان مبالغًا فى ردود أفعاله؛ فرفرف بجفنيه بعيدًا عنها يلعق شدقيه بحنق، ثم هز رأسه متمتمًا:
- تمام.
ثم شرع ذراعه أمامها يدعوها إلى الخروج أمامه ففعلت، ثم خرج خلفها وركبا السيارة مغادرين، ران عليهما الصمت لفترة طويلة وساد التوتر الجو حولهما، فلم يحرك حازم ناظريه عن الطريق أمامه متغضنًا جبينه بانزعاج يستمع إلى الصراع الناشب بدواخله
" إيه اللى عملته بس، بوظت الليلة وخلاص، ليه اتضايقت بالشكل ده يعنى، دى لو كانت حبيبتك ماكنتش اتحمقت اوى كده، دى سُلُم. سُلُم، هه، طبيعى تضايق علشانها ما أنت طول عمرك واقف فى ضهرها وبتحاميلها، ما هى زى أختك، لا هى أكيد أختك اللى ماجتش الدنيا، ههه زى ما عمو سليم كان دايما يقوللى وهو بيوصينى عليها زمان قبل ما نركب باص المدرسة.. أكيد يعنى لما ألاقى حد بيستفرد بيها على ضهر مركب لازم أتضايق ولو كان اتعدى حدوده كنت قتلته كمان..."
ازدادت حركات سلمى فى مقعدها مغلفة بالملل، فمدت يدها وشغلت المذياع لتنطلق منه أغنية "نكدت عليه أنا " ، فقطعت حبل أفكاره مما زاد من عصبيته فأطفأ المذياع، فصاحت مستنكرة:
- إيه يا حازم طفيته ليه مش كفاية البوز اللى ضربتهولى فجأة بدون سبب.
- مصدع، مش عايز أسمع حاجة، وبوز إيه اللى أنا ضربته من غير سبب، أنتِ ماشوفتيهوش كان مركز معاكى ازاى طول القاعدة وبعدين خدى هنا أنتِ ازاى تطلعى معاه لوحدك أصلا على سطح المركب؟
مالت برأسها قليلا ترمقه بنظرات استفهام خبيثة وأردفت:
- خير؟ هو فيه حد بيغير هنا ولا حاجة؟
عقد حاجبيه وفتح فمه باستهجان قائلا:
- نعم يا أختى؟ أغير! و على سُلُم من ماجد؟ والله دى حاجة غريبة. كل الحكاية إن رانيا كانت شايطة وكان اليوم ممكن مايعديش على خير أنتِ عارفة.
- رانيا! طيب.
قالتها بقلة حيلة، فأدرك أنه قال كلامًا فارغًا يدرى أن تلك الترهات التى تفوه بها لم تدُر بخلده بالمرة، فقال محاولًا أن يصلح شيئًا:
- يا سلمى أنتِ بردو أختى وواجبى أخاف عليكى، افرضى كان ماجد الشيطان لعب بعقله كده ولا كده.
- ليه و هو أنا هفأ ولا إيه؟
ثم أخذت تبرطم فى سرها "قال أخته قال، أنا ماليش اخوات أنا.."
- بتقولى إيه؟
- بقول شد شوية، جالى صداع وعايزة أنام.
- آااه عايزة تنااامى، اسطوانة النكد بدأت صح؟
افتعلت حركات معترضة بفمها ويديها، فضربها على رأسها مدمدمًا من بين أسنانه " يا شيخة بقا يخرب... "
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الرابع بقلم ياسمين السيد قنديل
٤- فى الچيم 🏋️♂️🤸♀️
فى ردهة منزل حازم، كانت ترقد سلمى ممدة جسدها على الأريكة ورأسها على ساق إكرام، تمسد على شعر سلمى بحنو، فى حين أنهت الأخيرة قولها:
- بس كده يا ستى، ده اللى حصل إمبارح.. وقال إيه يقوللى رانيا.
ثم ارتفعت بجسدها قليلا ولفت برأسها إليها متسائلة:
- كان غيران صح؟
ردت إكرام مؤكدة:
- من ناحية غيران فهو غيران.
- طب إيه بقا يا كوكو، مش تحننى قلبه علينا.
- يا بنتى.. عززى نفسك شوية ماتدلقيش كده، مش هو ابنى، بس أنتى كمان بنتى، ده أنا نفسى مش رضياهالك إنى أقولها له صراحة كده.
- يا كوكو ومين قال بس إنك هتجيبيها له صريحة، أنتِ زنى على دماغه علشان يتجوز واقعدى قوليله عايزة بنت زى سلمى عايزة واحدة فى جمال سلمى وطعامة سلمى والكلمتين بتوع الأمهات دول والزن ع الودان بقا هيطبع صورتى ف دماغه، قوم ييجى يطلبنى على طول.
حملقت فيها إكرام باستنكار:
- مش هتبطلى الهندى والتركى اللى بتفرجى عليه ده؟
- لا أنا بتفرج على أسبانى، ليه؟
- أسبا.. قومى قومى.. اتعدلى حازم شكله صحى ونازل.
هبط حازم الدرج متثاءبًا ومازال يجذبه أطراف النعاس وما إن أبصر سلمى حتى قال:
- إيه ده سُلُم عندنا.
تقدم نحوهما وجلس بالمقعد الذى يجاورها فردت عليه:
- نموسيتك كحلى يا كابتن، كل ده نوم.
- و هو أنا نايم على سريرك.
زمت فمها بغيظ فالتفتت إلى إكرام بينما تشير بإصبعها إلى حازم قائلة:
- شايفة يا طنط ابنك.
نهض وتوجه إلى المطبخ قائلا :
- أنتِ يا بنتى جاية تقولى شكل للبيع.
نهضت زوضعت يديها فى خصرها احتجاجًا وقالت:
- ليه مجنونة! تصدق بقالي كتير ماتدربتش.
- احنا فيها، ياللا ع الجيم وورينا شطارتك.
- اشطاا جداا، بس ماتلومش إلا نفسك.
- ياللا يا بت، أنتى هزء أصلا.
- ماااشى ماشى ما هو الكلام سهل، انا رايحة أجهز.. وأجيب شنطتى، بس يا رب ماترجعش فى كلامك.
- لا ياختى مش هرجع ماتقلقيش.
بعد أن خرجت سلمى أردفت إكرام:
- ماتفتحش صدرك أوى كده بدل ماترجع لى متخرشم.
- ليه وأنتِ مخلفة سوسن ولا إيه؟
- لا بس البت دى غشيمة ولما بتتغاظ من حد مابتشوفش أدامها.
- امم هى اشتكت لك منى ولا إيه؟
- وإيه الجديد!
- دى بت مجنونة، سيبك منها.
- طيب سبتنى من المجنونة، بالنسبة للمجنون اللى عندى؟
- قصدك مين، أحمد؟ هو ضايقك فى حاجة؟
- حاازم، ماتستعبطش.
- إيه بس يا كراملة انا عملت إيه؟
- مابتريحنيش.
- وأنا يعنى مش هريحك غير لما أعمل اللى فى دماغك وأتجوز؟
- الله، ما أنت حلو أهو أومال بتستعبط ليه؟
نهض عن مقعده يرسل لها قبلة فى الهواء وهو يقضم من تفاحته قائلا:
- أنا قايم أجهز قبل المجنونة ما تيجى، تشاو يا كراملة.
فى صالة الچيم، كانت تركض سلمى على جهاز العدو تحافظ على انتظام أنفاسها، مرتدية سترة رياضية سوداء مكونة من قطعتين، القطعة العلوي بلا أكمام ويتوسطها لوجو لماركة عالمية بينما كان حازم يتمرن على جهاز تمارين الصدر، تبرز عضلات ذراعيه فى عرض راقص كلما ضم أذرع الجهاز أو فتحهما مرتديًا تيشرت بلا أكمام مزيجًا لونه بين البرتقالى والأسود، وشورت أسود يصل طوله حتى ركبتيه.
نزلت سلمى عن جهاز الركض لاهثة الأنفاس بعد أن أتممت عليه ثلاثين دقيقة، ونهض حازم أيضًا يتصبب عرقًا متجها نحو الدنابل حينما رن هاتفه؛ فمضى يتفقد هوية المتصل، صُرَّ ما بين حاجبيه يرمق الرقم الغريب باندهاش ثم فصله بلا اكتراث لكنه عاود متصلًا مرة أخرى، فقالت سلمى:
- ما ترد ولا تعمله سايلنت بدل الازعاج ده.
- ده رقم غريب.. استنى أشوف مين.
أجاب المتصل وما لبث أن هتف:
- آه، رضوى! ازيك؟
ارتفع حاجب سلمى وتوقفت برهة عن لكم كيس الملاكمة تستمع إلى حديثه بفاه مفتوح وعينين تنقدح بهما نيران الغيرة تتساءل بداخلها " رضوى! غريبة دى؟ "
- آه لا ماكنتش مسجل رقمك، بس ملحوقة... لا يا رودى مش مستاهلة زعل.. أوك أنا حاليا بتمرن فى الچيم لما أروح هكلمك..
لاحظ تكشير سلمى عن أنيابها فتابع قائلاً:
- صحيح سلمى بتسلم عليكى.. آه معايا.. الله يسلمك -بتسلم عليكى-
قالها لسلمى فمطت فمها فى ابتسامة صفراء ثم أغلق مع رضوى " تمام، باى "
وضع هاتفه على الشاحن وما إن التفت حتى وجد سلمى منتصبة أمامه تعقد ذراعيها أما صدرها وتحدق به بنظرة شزراء وابتسامة صفراء فرفع رأسه إلى الأعلى قليلاً كناية عن تفهمه بسيل التساؤلات الذى سيغدق عليه فى الحال فوفرّ عليها عناء الاستجواب وأقرّ من تلقاء نفسه:
- اا.. دى رضوى كانت بتقول عايزة تكلمنى فى موضوع خاص و كده.. احم مش ياللا نكمل..
- موضوع خاص؟ وبينك وبين رضوى! و رودى هاه؟ امم وجابت رقمك منين يا حازم؟
- اه، طلبته منى لما اتقابلنا امبارح.
- غريبة ماقولتليش يعنى.
- هى دى حاجة مستاهلة أقولك عليها.
- اه لا عندك حق.. بقولك ايه ما ياللا نكمل تمرين.
- بقول كده بردو.
قالها متجها نحو الدنابل لكنها أوقفته قائلا:
- لا لا على فين يا أمور، ده وقت الكيك بوكسينج.
تمتم بسره " آااه، هرمونات النكد اشتغلت وعايز تطلع غلّها"
- بتقول إيه؟
ضربها على مؤخرة رأسها فاندفعت أمامه قائلاً:
- بقول قدامى ياختى.. أنا هوريكى البوكسينج على حق.
ردت بتحدٍ:
- هنشوف.
ارتدى حازم قفازه ووقف على بعد مناسب منها، يثب فى حركات استعدادية حالما بدأت وهاجمته سلمى بلكمه لكنه تصدى للضربة بذراعيه مدافعًا عن وجهه، فأتته بضربة عن يمينه لكنه تصدى لها أيضًا بذراعه الأيمن وبحركة من قدمه أسقطها أرضًا لكنها نهضت فى أقل من الثانية بحركة لولبية رائعة وسددت له لكمة فى جنبه، فأمسك به متألمًا ثم حاول تسديد اللكمات بكلتا يديه نحو وجهها لكنها تصدت لها ببراعة فأمسك بذراعها بحركة مفاجأة ولفها 180 درجة وقم بتكتيفها ليصبح ظهرها به فهمس بأذنيها لاهثًا:
- لو عايز كنت غلبتك من أول الجولة بس أمى علمتنى ما أمدش إيدى على بنت..فاهم يا.. سُلُم؟!
كان صدرها يعلو يهبط تلتقط أنفاسها،حالما التفتت إليه بوجهها فالتقت عيناها بعينيه وشردت بهما تغوص بهما كما تغوص الطائرة بالسحب، وهو الآخر قد لاقى جوابها الصامت بنظرة غريبة وكأنه بمشهد رومانسى مثير، ومع من؟ مع سُلُم! ذلك الأمر الذى أضحكه فأجفلت سلمى وانتبهت من شرودها..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فى حديقة المنزل، أمسكت إكرام أرنبها وجلست تطعمه أوراق الخس حتما أتاها اتصال تليفونى فتركته يأكل وأجابت متصلها:
- ألو، أهلا ازيك يا عفاف...
لم يمض على تلك المكالمة ثلاث دقائق حتى سمعت صوت صياح ضجرًا، أدركت كنه صاحب الصوت فأطبقت عينيها بإستياء قائلة لصديقتها:
- آه يا حبيبتى فيلا 128 تآنسى وتنورى. سلام.. سلام.
أغلقت مع صديقتها فى عجلة، ثم هرولت إلى حيث يأتى الصوت:
- إيه، جرا إيه يا راجل أنت بتزعأ كده ليه؟
تجعد جبين سليم مستنكرًا وقال:
- بزعأ كده ليه؟ أنا كام مرة أقول الأرنب ده مايقربش من الزرع بتاعى، الزرع مابقاش نافع.
ردت من بين ضروسها:
- متأسفين يا أستاذ سليم. أوعدك مش هتتكرر تانى.
- يا سلام ياختى، ماباخدش منك أنا غير البوقين دول ومابيتغيرش حاجة.
- ييي أنت عايز إيه دلوقتى؟
احتد بينهما الحوار أو بالأحرى الشجار، واعتلت أصواتهما فهرع إليهما أحمد وصفا يقفا بينهما حيث تساءل أحمد:
- إيه إيه بس، فيه إيه يا ماما، مالك ياعمو سليم؟
- مالى، اسأل الست والدتك، أنا ضهرى يتقطم فى الاهتمام بالزرع وييجى الأرنب بتاعها يبوظهولى.
ردت إكرام بدفاع مع نفاذ صبرها:
- يوووه، نقول تور يقولوا احلبوه، بقولك جاتلى مكالمة مستعجلة وهو جرى منى غصب عنى.
تدخل أحمد:
- لا ازاى يا ماما عمو سليم عنده حق..
رمقته بشرز فغمز لها وعض على شفته بأن تمرر الأمر بينما التفت إلى سليم قائلاً:
- إحنا متأسفين ياعمو، أوعدك إن سلطان مش هيقرب من الزرع بتاع حضرتك تانى أبدًا.
- علشان خاطرك بس يا أحمد يا ابنى ..
ثم مضى يبرطم: قال سلطان قال، فيه أرنب فى الدنيا يبقى اسمه سلطان.
بينما دمدمت إكرام وهى تدخل إلى المنزل: راجل خُلَل صحيح.
دلفت خلفها صفا قائلة محاولة تهدئة ثورتها:
- خلاص بقا يا طنط ماتضايقيش نفسك، يعنى هى أول مرة!
- هو فين جوزك ده اللى بيدافع عنه ويطلعنى الساحرة الشريرة فى الآخر.
- ماتكبريش الموضوع أومال يا كراملة، أنتِ عارفة إنه كان بياخده على قد عقله علشان الموضوع يعدى.
- عندك حق، راجل مخه على قده.
غمغمت صفا فى سرها: هو بس اللي مخه على قده.. نفس العينة أقسم بالله.
- بتقولى إيه؟
- هاه..لا أبدا..دا دا آه الجرس بيضرب هقوم أشوف مين.
ضربت إكرام كفًا بكفٍ وتمتمت: بيت مجانين وجيران مجانين، يارب توب عليا.
عادت لها صفا قائلة بعدما ردت فى جهاز الـ telecome:
- فيه واحدة عايزاكى برة بتقول اسمها مدام عفاف.
- آه صح ده أنا نسيت، هطلع أستقبلها وأنتِ خلى فوزية تحضر الضيافة.
- حاضر.
بعد مرور ساعة، عاد حازم وسلمى أدراجهما، حينذاك لمحت سلمى سيارة حمراء أمام منزله مركونة حيث يركن هو سيارته فاستقر بسيارته أمامها ثم نزلا منها فتساءلت سلمى:
- إيه ده عندكوا ضيوف ولا إيه؟
قلب شفته السفلى وقال:
- مش عارف، ماما ماقالتليش إن جاي لنا حد النهاردة.
استشعر أنفها رائحة غير زكية فى الأمر فانتظرت حتى ودعها ودلف إلى منزله واقتربت من تلك السيارة فوجدت بها سلسالًا يحمل صورة فتاة، فضيقت عينيها بتوعد ثم دلفت إلى منزلها مسرعة.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الخامس بقلم ياسمين السيد قنديل
٥- ذات الحذاء الأحمر👠
دلفت سلمى مسرعة إلى منزلها غير منتبهه إلى والدها الذى كاد يهمّ بالترحاب بها لكنه تفاجأ من هيئتها فخلع نظارته وتابعها بوجه يسوده الاندهاش، ركضت نحو النافذة التى تطل منها على ردهة منزل حازم وكانت فى الزاوية البعيدة للصالة؛ فأردف والدها بتعجب:
- الله الله، إيه يا بنتى داخلة تجرى كده ليه، طب ارمى السلام حتى... دى مابتردش عليا، ماعرفتش أربى، أنا ماعرفتش أربى.
وقفت سلمى خلف النافذة تحاول من جميع الزوايا أن ترى وجهتها داخل المنزل حتى أبصرت سيدة فى طور الخمسينيات تتحدث مع أحدهم ورجحت أنها تتحدث مع إكرام، و بجانب السيدة فتاة طويلة ممشوقة لم تتبين ملامحها لكنها لاحظت شعرها الأسود الطويل والمعطف الأحمر الذى ترتديه على بنطال أسود وحذاء برقبة باللون الأحمر أيضًا فتمتمت بغيظ:
- إيه القرف ده بوت أحمر؟! و دى تطلع مين بقا، ماشوفتهاش قبل كده.. طيب ماااشى يا حازم.
التفتت لتواجه والدها الذى كان واقفا خلفها هاتفًا:
- بتعملى إيه يا مجنونة، واقفة كده ليه؟
- مفيش يا بابا، أنا بس هروح عند طنط إكرام وهاجى بسرعة.
- خدى هنا، رايحة تعملى إيه عند تانت إكرام ياختى- قالها بطريقة ساخرة- وإيه اللى مخليكى مسروعة كده؟
- اا..اا.. رايحة أجيب ليمون يا بابا.
- لمون؟
- آه.. علشان أعمل لك عصير يا بابا، أنت مش شايف وشك مخطوف ازاى وعينك حمرا، ده أكيد الضغط، قولتلك يا بابا مليون مرة خلي بالك من نفسك يا حبيبى مش معقول كده.
تركته وغادرت مسرعة فارتفع حاجبيه ونظر للمرآة المذهبة المعلقة فى الردهة، يتفحص وجهه وعينيه ثم تمتم:
- أنا بردو اللى وشى مخطوف يا بنت القرود.. والله ما حد هيجيبلى الضغط غيرك..ضغط؟! أنا أصلا ماعنديش ضغط..
فى منزل حازم:
- والله نورتينا ياعفاف.
- ده نورك يا حبيبتى، يارب بس ماتكونش زيارتنا تقيلة كده علشان جينا من غير معاد بس لقينا نفسنا قريب منك قولنا نعملهالك مفاجأة.
- لا يا حبيبتى تقيلة إيه بس، دى أحلى مفاجأة.. يا صفا شوفى فوزية اتأخرت ليه.
- حاضر يا ماما.
التفتت إكرام مصغية إلى عفاف حينما قالت:
- إيه بقا يا إكرام مش ناوية تفرحينا بحازم ولا إيه ولا هى غيرة الأم بقا؟
حينذاك سمعتها سلمى والتى كانت تقف لدى الباب فتنحنحت ودخلت؛ فقالت إكرام متفاجئة :
- سلمى! تعالى ياحبيبتى، تعالى أما أعرفك على ميس عفاف مدرسة الكيمسترى معانا فى المدرسة.
مدت سلمى يدها وصافحتها، ثم قالت لإكرام:
- أنا.. أنا كنت جاية آخد ليمون، عندك ليمون يا طنط.
- آه يا حبيبتى، ادخلى خدى من المطبخ.
- تمام، ميرسى يا طنط.
كانت تحدثها وهى تمسح المنزل بعينيها لا ترى أثرًا لحازم ولا لتلك الفتاة ذات الحذاء الأحمر. فدخلت إلى المطبخ وهمست إلى صفا:
- صفا، صفا!
- إيه يا مجنونة، فيه إيه؟
- هى مش الست اللى برة دى كان معاها بنت، راحت فين؟
- إيه ده وأنتِ عرفتى ازاى؟
- مش وقته انجزى .
- قاعدة مع حازم برة فى الجنينة، شكلها كده عروسة جيباهالو إكرام.
- عرسة لما تقرقش ودانها، ماشى أنا هوريه، أنتِ بتعملى إيه؟
- فوزية عملت عصير لطنط عفاف بس البرنسيسة بنتها عايزة شاى أخضر علشان عاملة دايت.
قالتها بمياعة توحى بعدم استلطافها للفتاة ثم تابعت:
- بت سمجة وتنكة بشكل- ثم مضت تقلدها بأسلوب ساخر- أنا فاشون بلوجر معروفة، بتكلم خمس لغات و عندى مدونة عليها مليون فولورز بيتابعونى من كل مكان فى العالم.
امتقع وجه سلمى وعلّقت:
- فاشون بلوجر آه، بأمارة البوت العرة اللى لابساه.
وقفت تجز على أسنانها كمدًا، ثم قالت بنبرة غلٍ:
- تمام،حلو أوى، هاتى بقا الشاى ده أنا هطلعهولها.
ردت صفا بترقب:
- سلمى! ناوية على إيه يا مجنونة.
- هاتى بس وسيبى الباقى عليا.. ثقى فيا.
- لا.
- بقولك ثقى فيا، ياللا هاتى.
ناولتها صفا الفنجان باستسلام لعنادها قائلة:
- ربنا يستر.
خرجت سلمى من باب المطبخ المؤدى إلى الحديقة، رمقتهما بنظرة شزراء، ثم توجهت نحوهما.
- وأنت بقا يا حازم إيه هواياتك، يعنى أنا مثلا بجانب حبى للفاشون وحضور الديفيليهات بحب أعزف على البيانو وبحب أدرس لغات جديدة.
- امم برافو، أنا...
انتبه حازم لمجىء سلمى من ناحية المطبخ فهتف بحماس وكأنها ملاك نزل من السماء لإنقاذه:
- سلمى!
حملت نفسها على الابتسام، بينما قال لضيفته "دعاء":
- دى بقا سلمى، جارتناو my best friend.
ابتسمت دعاء وأومأت رأسها بكبرٍ، ترمق سلمى من مقدمة رأسها حتى أخمص قدميها ثم قالت له:
- امم، قصدك صاحبك مش صاحبتك.
مط فمه فى ابتسامة صفراء والتفت إلى الناحية الأخرى يبرطم فى سره" أبو شكلك ".
اقتربت منهما سلمى تبتسم بمكرٍ لكنها حاولت أن تكون ودودة، وقالت بلهجة ريا وسكينة:
- أهلا وسهلا ً.. نورتينا.
ما كادت الأخرى ترد عليها حتى افتعلت سلمى فوضى حيث أسقطت كوب الشاى الساخن على يدها ودوَّى صوت صراخها ففزع حازم ونهض مسرعًا:
- سلمى ، سلمى، مالك؟
- ايدى يا حازم إيدى.. آااهاا.
أمسك يدها الملتهبة وجعل ينفخ بها فى حركة تلقائية قائلا:
- اهدى اهدى، تعالى معايا.
أخذت تبكى بافتعال وهى تدلف معه إلى الداخل ثم التفتت إلى دعاء من خلف كتفه، وأخرجت لها لسانها فاتسعت عين الأخرى وفغرت فاها باندهاش من مكرها بينما أخذت سلمى تفتعل البكاء:
- آااه إيدى يا حازم.
- معلش معلش، يا صفا هاتى شنطة الإسعافات لو سمحتى.
- إيه ده مالها..
غمزت لها سلمى فتابعت صفا:
- حاضر حاضر .
- إيه يا سلمى يا حبييتى مالك؟ قالت إكرام بفزع.
- ماتقلقيش ياماما بسيطة الشاى وقع على ايديها.
- ياحبيبتى، مش تاخدى بالك و...
قاطعتها عفاف:
- طب نستأذن إحنا يا ميس إكرام.
- ليه لسه بدرى يا حبيبتى.
- لا معلش بقا، علشان نلحق نروح، بنام بدرى.
خرجت معها إكرام تودعهما، بينما أحضرت صفا صندوق الإسعافات، أخرج منه حازم مرهم الحروق وأمسك يد سلمى؛ فتأوهت؛ فأردف متأسيًا :
- معلش، استحملى دقيقة بس.
شرع يفرد طبقة المرهم على يدها بحنو، فى تلك اللحظة غادرها الألم وحل محله قشعريرة، بلغ وجيب قلبها أعلى درجاته، فجعلت تحدق به بعنين هائمتين، تهيم باهتمامه بها وخوفه عليها التى طالما أغدق عليها بهما تحت مسمى الصداقة والأخوة، لم تُخف عليه نظراتها فكان بإمكانه سماع وجيب قلبها بقربها منه، يعلم أن تلك سلمى التى تشكل له جزءًا كبيرًا من حياته تتعلق به كما يتعلق هو بها؛ فحياته من غيرها خواء، يكاد يكون يومه عبارة عن يفعل كذا مع سلمى، يتحدث مع سلمى، يهاتف سلمى، يراسل سلمى، يتمرن مع سلمى، يخرج مع سلمى، يتشاجر مع سامى، يتشاجر لأجل سلمى، لا يمكنه أن يروح أو يغدو بلا سلمى، فما هى حياته بدونها؟ كان يعرف كل ذلك ويدركه أيَّما إدراك ومع ذلك لا يتخيل قط أنها تمثل له سوى أختًا وصديقة قريبة، لكنه حينما يسمع خفقان قلبها حالما يقترب منها يشعر بأمر خاطىء، بات أكيدًا من أن سلمى لم تعد تعتبره مجرد أخ أو صديق بل أكثر بكثير، ربما يكون ذلك السبب فى رفضها المستمر لمن يطلبونها للزواج و ردع أى شاب ينوى التودد إليها، ذلك ما كان يروقه كثيرًا بل كان يشجعها على ذلك؛ فحتى هو لم يكن يحتمل فكرة أن تنشغل عنه بغيره، لكن الأمر قد بات فى مرحلة خطيرة؛ فعزم فى نفسه أن يجعلها تعدل عن تفكيرها كى لا ينكسر قلبها وذلك ما لا يتحمله بالمرة، قطع قطعة من الشاش الطبى وشرع يلفّه برفق حول كفها، لحظتئذ عادت إكرام فقال حازم دون أن يرفع عينيه عن يد سلمى:
- بقا كده يا كراملة، ناصبالى فخ وجايبالى العروسة ومامتها لحد هنا، مش قِدم الجو ده!
انتبهت سلمى واستفاقت من شرودها، هل خانتها إكرام وأرادت أن تزوجه من ابنة صديقتها، كيف لذلك أن يُصدَّق وهى من ربتها وشجعتها على حب ولدها كما تقول دائمًا أنها أكيدة من أنه يعشق سلمى حد الوَله، لكنه أحمق لا يدرك تلك الحقيقة، أما عن إكرام فكانت تتساءل بداخلها "عن أية عروسها يتحدث؟!" لكنها مع ذلك لم تنكر حديثها وقالت:
- وأعمل لك إيه، إذا كنت مش عايز تسمع كلامى وتفرح قلبى، سيبتلك حرية الاختيار وأنت رافض المبدأ نفسه، قلت يمكن قلبك ومشاعرك يتحركوا ولا حاجة.
كانت سلمى مصعوقة مما تسمع، بينما رد حازم:
- خايف أقولك إنك خليتينى أصر على قرارى أكتر بعد مقابلة النهاردة دى.. بس تصدقى أنا مش هزعلك وهعمل معاكى deal..
قفز قلب سلمى إلى حنجرتها خوفًا وترقُبًا لما يدور فى رأسه حتما سمعته يقول:
- أنتِ عايزانى أتجوز صح.. تماام، وانا عايز واحدة كده تكون مختلفة حاجة ماجربتهاش قبل كده، أهو على الأقل بما ألبس فى جوازة، يحسدونى عليها مش يقولولى ربنا يكون فى عونك.
ردت إكرام متسائلة:
- أيوا معناه إيه بقا الكلام ده؟
- معناه إنى قررت مش هتجوز مصرية، هتجوز واحدة أجنبية، إيه مانفسكيش تبقى مرات ابنك كده حاجة انتاج أوروبى مثلا أو آسيوى..
أجابته والدته مستنكرة:
- ومالها المصرية بقا إن شاء الله؟
أطرق رأسه ورمقها من تحت حاجبيه قائلاً:
- يا كوكو، ما كانت معايا المصرية من شوية.
هتفت سلمى بغيظ:
- وهو يعنى كل المصريات ست دعاء.
رفع يديه وقلب شفته السفلى قائلا:
- والله أنا قولت اللى عندى وبصراحة الموضوع كبر فى دماغى أوى، هيبقى مغامرة جديدة، وحيث إن رحلتى بكرة لروسيا، استعدى بقا يا ست الكل يمكن أرجعلك بالعروسة من هناك.. ياللا تصبحوا على خير، يدوب ألحق أنام قبل معاد الرحلة.
غادر يرتقى الدرج إلى الأعلى، بينما سقطت سلمى على الأريكة خلفها بإغماء مفتعل، فوقفت صفا تضحك، تضع يدها على فمها محاولة كتم ضحكاتها، بينما وثبت سلمى من مكانها قائلة لإكرام بهجوم:
- كده بردو يا طنط بتنيمينى وجيباله عروسة.
أشاحت إكرام بيدها يائسة وقالت حينما راحت تجلس على المقعد:
- ياختى أنا ولا جبت عروسة ولا غيرها، هما اللى طبوا علينا زى القضاء المستعجل وهو اللى فهم إنى جايباله عروسة، قلت كويس إنه فتح الموضوع علشان أجس نبضه زى ما اتفقنا، بس أقول إيه ابنى دماغه جزمة قديمة ولازم يفاجئنا بدماغة الضاربة دى.
دبدبت بقدميها فى الأرض قائلة:
- أيوا، يعنى أنا أعمل إيه دلوقتى، أكهرب له نفسى هنا! أنط له من الطيارة يعنى علشان يحس بيا، ده إيه الغلب ده يا ربى.
- يا بت اهمدى ومابتبقيش خفيفة كده.
- خفيفة إيه؟ بيقولك هيرجعلك بعروسة روسية بكرة، ماتقوليلى أرش لهم الورد بالمرة.. أنا ماشية تصبحوا على خير.
خرجت سلمى غاضبة تدك الأرض دكًا بينما وضعت إكرام يدها على رأسها درءا للصداع فتساءلت صفا التى مازالت تضحك:
- أجيبلك دوا للصداع يا ماما.
- ياريت يا حبيبتى.
- حاضر من عنيا، ثانية واحدة.
ركضت صفا إلى الطابق الهلوى لتحضر لها الدواء بينما تبعتها إكرام بعينين راضيتين، مصمصت شفتيها وقالت:
- ويقوللى روسية قال ابن الهبلة، هى الروسية بردو هتعمل كده.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل السادس بقلم ياسمين السيد قنديل
٦- مفاجأة من روسيا

فى صالة انتظار المسافرين بالمطار، كانت تقف مع صديقاتها من فريق المضيفات، مرتدية زيّها العملى المؤلف من جونلة قصيرة كحلية يصل طولها حتى الركبة، يعتليها سترة بنفس اللون ومن أسفلها بلوزة بيضاء أنيقة، يتوج رأسها تلك القبعة الصغيرة مثبتة بمشابك الشعر الرفيعة، أخذن يتحدثن ويضحكن منهن من تحكى عن آخر مغامراتها فى البلاد التى زارتها فى الآونة الأخير وكم من رجل فى تلك البلاد كاد يقتل نفسه عليها لكنها لا تهتم ولا تكترث معربة أنها لا تنتوى الزواج إلا من رجل مصرى "حمش" على حد قولها، وأخرى تروى أنها بعد عودتها من رحلتها وجدت خطيبها يخونها والعديد من حكايات البنات التى لا تفرغ ولا تنتهى بينما ما جذب انتباههن أكثر كانت خيانة خطيب صديقتهن فسألنها أن تخبرهن الأمر تفصيلًا، فجعلت تروى لهم:
- البيه كان ناسى معاد وصول رحلتى، وكان واخد راحته على الآخر، كنت واقفة مع واحدة زميلتى من الاستاف وفجأة لمحته بطرف عينى، ببص لقيته ماشى مع بت أجنبية شعر أصفر وعيون زرقاء ولافف دراعه على كتفها ومقضيينها هيىء وميىء وفجأة...
وفجاة تجهمت ملامح سلمى واربدَّ وجهها، فما لمحته لتوها لم يكن سوى تجسيد لوصف زميلتها لكن بطل المشهد هاته المرة ليس خطيبها بل...
حازم!
تركت الفتيات وسارعت فى خطاها خلفهما هاتفة بنبرة ساخطة:
- حازم.. احم، كابتن حازم!
التفت لها حازم بعدما استطاع تمييز الصوت بسهولة ويسر والتفتت معه رفيقته ذات الشعر الأشقر والعيون الزرقاء والبشرة الباردة:
- سلمى! حمدًا لله على السلامة.
جزَّت على أسنانها وهى تقول:
- الله يسلمك.. مين دى؟
سألته هامسة؛ فردد مستفهما: إيه؟
رددت من بين أسنانها:
- مين دى؟
رد بإشارة منه أنه فهم وأردف يقدمهما لبعضٍ:
- kristen, this is salma, my best friend.
- سلمى دى كرستين- ثم مال عليها واستطرد بنبرة خافتة- مشروع العروسة الروسية بس لسه بنتعرف على بعض، موزة مش كده.
رمقته بنظرة نارية وحاجب مرتفع تشد على فكها كمدًا، وقبل أن تندفع بالرد ناداه أحد زملائه فاعتذر منهما ومن كرستين بشكل خاص:
- just a minute!
ردت بمرح وابتسامة عذبة:
- Okay, take your time Baby.
-Baby!
هتفت سلمى باندهاش ساخط، فأجفلت الفتاة ورمتها بنظرة مستعجبة، حاولت سلمى وقتئذ التحكم فى أعصابها وعدم ارتكاب أية حماقة أو بالأحرى جريمة ، وخطر لها على حين غرة فكرة لم تتوان فى تنفيذها، وفجأة ابتسمت للفتاة بنيةٍ الله وحده أعلم بها واقتربت منها قائلة بتودد:
- I can see, you like him, true?
ارتسمت ابتسامة خجولة على ثغر الفتاة وقالت:
- yes, he's handsome and a gentleman.
رسمت سلمى الآسى على محياها وكأنها تخفى أمرًا مريبًا وردت بنبرة لئيمة:
- yes, he looks like that, but..
تغضن جبين الفتاة فى قلق وتساءلت:
- But what?
- Oh, it means you don't know...
سكتت وكأنها كانت على وشك إخبارها بأمر شديد الخطورة لكنها عدلت عن ذلك، لكن الفتاة أومأت متسائلة بإصرار، فأجابتها سلمى بعناد مصطنع:
- Nothing.. nothing.
ازداد قلق الفتاة فبات متجليًا على وجهها وسألتها بتوسل:
- please, tell me.
أظهرت سلمى امتعاضها، وضعت سبابتها بين أسنانها تصطنع الحيرة والتفكير، ثم وافقت على إسداء ذلك المعروف لها وأردفت:
- Actually, i mean.. because he is...
ومالت على أذن كرستين وأكملت حديثها، فشهقت الفتاة وصاحت:
- What!!! OMG!
ولم تتوان عن تركها وفرت هاربة من المكان فضحكت سلمى وقالت بتحدٍ " يبقى يورينى بقا هيجيبها منين عم الكازانوفا"، بعد دقيقتين عاد حازم وبدا مندهشًا حيث لم يلمح أثرًا لكرستين فسأل سلمى:
- إيه ده أومال كرستين فين؟
رفعت كتفيها ومطت شفتها إلى الأسفل قائلة:
- مش عارفة، هتلاقيها فى أى ركن هنا.
ثم تركته فى خضم دهشته وعادت إلى زميلاتها، يتمتم فى سره " فى أى ركن! هى قطة؟!...مش عارف ليه شامم ريحة سُلُم فى الموضوع..ياترى البت راحت فين "
فى المساء وبالمطبخ فى منزل حازم، صاحت صفا بإندهاش وهى تضع غلاية المياه مكانها بعدما سكبت منها:
- شاذ!! شاذ يا قادرة! يخرب عقلك.. قولتيلها كده؟
هزت سلمى رأسها ضاحكة حتما تقلصت ضحكتها ما إن سمعت صوت إكرام من خلفها تردد بنبرة اسبهلال يشوبها التهديد:
- مين ده اللى شاذ يا بنت سيدة.
كادت تشرق ووقف المشروب الساخن كالغصة فى حلقها فوضعت فنجانها جانبا، والتفتت لها فى عجالة تتوسلها بإشارة من يدها أن تمهلها لتشرح لها واقع ما حدث لكن إكرام وعلى حين غرة خلعت نعلها- السلاح الاستراتيجى لدى الأمهات- ورفعته تركض به نحو سلمى التى شهقت فزعة، وأخذت تهرب منها تختبىء خلف صفا بينما تابعت إكرام:
- ابنى أنا تطلعيه شاذ يا جزمة، ده راجل وسيد الرجالة.
قالت وهى تركض منها حول طاولة المطبخ:
- يا طنط كنتى عايزانى أعمل إيه يعنى لما ألاقى ابنك داخل عليا بواحدة ملونة وبيقوللى عروسة المستقبل.
ردت عليها تقذفها بالنعل بينما حل محله بيدها الفردة الأخرى:
- تخلى عندك ثقة فى نفسك شوية يا هبلة.
استطاعت سلمى بأعجوبة أن تهرب منها إلى الصالة وتركض إكرام خلفها بينما ردت سلمى:
- أنا واثقة فى نفسى كويس جدا بس مش واثقة فى ابنك،كنتى عايزانى استنى لما ياخدها فوق سطح الواد حمادة ولا يطلع بيها على المقطم.
ركضت خلفها إكرام بغيظ وغضب تقول:
- تقومى تطلعيه شاذ يا جزمة.
هرعت سلمى إلى طاولة السفرة حتى ما أبصرت حازم، ركضت تحتمى بظهره:
- الحقنى يا حازم والنبى.
- إيه فيه إيه؟
لاحظ والدته تركض خلفها؛ فوقف حازم أمامها مدافعًا متعجبًا للموقف، وتساءل:
- إيه ده يا ماما، معقول..ماسكة لها الشبشب، هى عملت إيه بس؟ ثم التفت إلى سلمى قائلا: الله يخرب بيتك انتى عملتى إيه خلتيها قلبت عليكى كده؟
- ولا حاجة يا زوما.
نظر إليها مستهجنًا:
- زوما ولويتى بؤك يبقى عاملة مصيبة.
ابتسمت إكرام بلؤم وقالت لسلمى:
- أقول له عملتى إيه؟ وأهو نشوف بقا إن كان هيدافع عنك ولا هيسلمك تسليم أهالى.
أشارت لها سلمى بتوسلٍ ألا تفعل، فقالت إكرام بتحذير:
- على الله اللى حصل ده يتكرر تانى يا بنت سيدة، وقتها مش هسمى عليكى.
هزت سلمى رأسها عدة مرات موافقة؛ فألقت إكرام بنعلها على الأرض وارتدته.
ضحك حازم ثم انحنى إلى المائدة التى كانتا تركضان حولها وتناول بعض أصابع البطاطس المقلية قائلا لسلمى:
- لوما.. استعدى هنروح سيسليا بعد نص ساعة.
أمسكته من ذراعه بخفة وأدارته إليه قائلة وهى تضع يديها فى جانبيها:
- اشمعنا؟
- رضوى كلمتنى وقالتلى انهم رايحين وعايزينا نروح معاهم.
- والله، رضوى تانى؟ لا أنا ماليش مزاج أروح.
- متأكدة؟
ردت بإصرار وهى تنظر إلى الأعلى بغيظ:
- أيوا.
لوى شدقه غير آبها قائلاً:
- طيب براحتك .
- براحتى؟ يعنى إيه.. أنت.. ناوى تروح؟
- وماروحش ليه هغير جو مع صحابنا إيه اللى يمنع.
- صحابنا بردو ولا الست رضوى.
فهم حازم ما ترمى إليه؛ فأردف نكاية بها:
- والله كلك نظر.
- ياللا أنا هطلع أجهز أنا علشان ماتأخرش عليهم.
صعد إلى الأعلى بينما أشارت عليه سلمى قائلة لوالدته التى جلست على الأريكة وشرعت بتشغيل التلفاز:
- شايفة ابنك! وبترجعى تلومينى فى الآخر.
ضحكت إكرام بشماتة وقالت:
- أحسن، تستاهلى.
زمت فها بامتعاض طفولى قائلة:
- كده بردو يا طنط.. شكرا.. يا أصيلة.. ياللى كنتى فاكراكى زى مامتى و بتحبينى..
لم يرمش لإكرام جفن بينما تشاهد التلفاز فاستطردت سلمى بقلة حيلة:
- إيه مفيش خالص، ماتأثرتيش؟
ضحكت إكرام تتناول طبق اللب من على الطاولة قائلة:
- ولا الهواء.
مضت سلمة وجلست متربعة إلى جانبها وارتكزت بمرفقيها على ساقيها المتربعتين واستندت بوجهها على كفيها، مكورة شفتيها بامتعاض حالما قالت لها إكرام:
- تاخدى شوية لب.
رمقتها بنظرة شزراء قائلة من بين أسنانها:
- شكرا، خليهم لابنك.
حاولت إكرام كبت ضحكاتها وعدم إبداء سخريتها منها وجعلت تشاهد التلفاز حتما نزل حازم يرتدى قميصًا باللون السماوى وبنطال كحلى، يعلق على ذراعه جاكت جلدى باللون الأزرق قائلا:
- ياللا أنا ماشى، سلام عليكم.
أنزلت سلمى ساقيها عن الأريكة تحدق به وهو يغادر بوجه يأسره الغيظ وقلة الحيلة، وجعلت تشد فى كُم والدته لا إراديًا كطفلة؛ فقالت والدته:
- بس ياهبلة، ياللا قومى وراه مستنية إيه.
- بس كده هبان عيلة.
- وأنتى مش كده!
- لا طبعا.
- خلاص خليكي قاعدة وهو يروح يسهر مع صحابه.. وصحباته.
لم تمر ثانية واحدة حتى صرخت سلمى:
- حازم! استنى انا جاية معاك.
وانتعلت حذاءها وانتشلت حقيبتها بسرعة البرق، ثم انطلقت فى أثره.
كان لايزال يفتح باب السيارة فأردف دون أن يلتفت إليها:
- غيرتى رأيك يعنى!
- اا.. عادى يعنى، لقيت إن مفيش حاجة هعملها وهزهق.. و.. وبعدين احنا لسه هنرغى ياللا بينا علشان مانتأخرش.
فلتت عن شفتيه ضحكة، فكان أكيدًا فى قرارة نفسه أنها سوف تلحق به ولن تتشبث بموقفها طويلًا.. وقد كان.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل السابع بقلم ياسمين السيد قنديل
٧- على كورنيش النيل ⛵

وصلا إلى سيسليا بعد مرور ساعة واحدة، و ما إن دلفا حتى استقبلتهما رضوى بحفاوة وصافحتهما بحرارة ولاسيما حازم والذى تساءل:
- مش شايف غير سهايلة يعنى، أومال الباقيين لسه ماجوش ولا إيه؟
طالعته بابتسامة غريبة، وردَّت بينما تتمايل وهى واقفة كالوردة التى تداعبها نسائم الهواء:
- يعنى تقدر تقول كده، ماجد فى الطريق ومعاه عاطف إنما محمد ورانيا مش هييجوا النهاردة.
كانت ترمقها سلمى بغيظ من أسلوبها المائع فى الحديث الذى كشفَت به الالتواء وقربها المتزايد من حازم بحجج وذرائع غير مقنعة، بدت وكأنها تتودد إليه بهدف ما فالنظرات المنبعثة من عينيها لايمكنها ألا تكون سوى نظرات إعجاب ولأن سلمى فتاة مثلها، شمت رائحة الألاعيب للإيقاع به فى شركها، لكن مهلاً، مع من تلعب؟! فقد باتت الكرة الآن فى ملعب سلمى وعليها أولًا خوض المبارة معها والتخلص منها إن أرادت عبور الحاجز إلى حازم، شرعت رضوى ذراعها تدعوهما إلى الداخل بينما هتفت سلمى برجاء:
- حازم! أنا نفسى أوى فى حمص الشام، فيه واحد واقف برة بيعملها تعالى معايا نجيب بليز.
استغرب حازم قائلا:
- غريبة بس أنا ماشفتش حد واقف برة بيبيع حمص شام.
- لا أنا شوفته، علشان خاطرى يا حازم، بليز بليز بليز.
ابتسم حازم قائلا برضوخ:
- خلاص خلاص حاضر.. ياللا بينا.
استوقفتهما رضوى ممسكة بذراعه فرمقتها سلمى بحقدٍ وربما شعرت الأولى بذلك فأنزلت يدها على الفور وقالت:
- بس كده المركب ممكن تمشى قبل ما أنتوا تيجوا.
هز حازم رأسه قائلاً:
- لا ماتقلقيش مش هنتأخر.
فرحت سلمى وخرجا من المركب وصولا إلى الكورنيش وبالفعل لم يجد حازم أثرًا لعربة حمص شام فى تلك البقعة، فالتفت إلى سلمى التى ألقت بنظرها بعيدًا تداعب رقبتها بأصابعها ففهم أنها ابتدعت تلك الذريعة ليخرجا من المركب، فظل واقفًا ثابتًا أمامها واضعًا يديه فى جيبه يطيل النظر إليها، فرمشت بعينها اضطرابًا ونظرت إليه بطرفها، ثم تجرأت ورمقته بشكل كامل قائلة:
- بصراحة زهقت من ركوب المركب، نفسى أتمشى على الكورنيش وناكل درة ولا حمص شام، أو فشار ولا لب حتى.
وبينما كان حازم محدقا بها بنظرة باردة حتى جعل يضحك على براءتها، بكل ما تعتزم على إظهاره من قوة أو أنها تسترجل أحيانًا، لكن بداخلها نقاءًا وطفولة كافيان لجعله يتغاضى عن أية حماقة قد ترتكبها بقصد أو بدون.
وفجأة تركها وسار بضع خطوات بعيدًا عنها؛ فارتبكت وأخذت تنادى عليه " يا حازم.. يا حازم استنى بس " ثم مضت تبرطم " يوووه، طب هو رايح فين دلوقتى وسايبنى اتفلق كده.. آه ما هو أصل الاهتمام مابيطلبش، ماشى يا حازم " ومالبثت أن رمقته يقف من العامل الذى يقطع تذاكر المركب ثم عاد إليها قائلاً:
- ياللا..
- على فين؟
رد مبتسمًا:
- مش عايزة تاكلى حمص شام؟!
اتسعت ابتسامتها وبرزت تفاحتىّ وجنتيها تغطى على عينيها الداكنتين ينافسان فى عمقهما كلحة السماء فى ليل يغرق فى أحضان النيل، وذهبت معه يتمشيان، حيث أخبره العامل أنه هناك بائع حمص شام على مسافة ليست ببعيدة منهم.
وبعد تمشية طويلة إلى جانب النيل، يستمتعان بمشاهدته فى غمرة الليل والأضواء المختلفة منعكسة على أمواجه الرقراقة من كل حدب وصوب،صفراء وحمراء وزرقاء وغيرها تشكل منظرًا خلابًا ما إن اقترنت به، وكيف لا وهو مصدر الإبداع فى الحياة. لا يكف عن العطاء، فإنسانية النيل كانت ولازالت أكبر ألف مرة من إنسانية بنى البشر، شريان حياتنا فى أبهى صوره كأنه الكوثر على الأرض، ينبوع الإلهام والثراء للوجدان والروح.
وجدا أخيرًا بائع حمص الشام، تقدم نحوه حازم وطلب منه كأسين، حينئذ سأله البائع:
- شطة كتير ولا قليل يا باشا.
- قليل يا حجيج.
هتفت سلمى بإحتجاج:
- لا يا حازم أنا بحبه شطة كتير.
- متأكدة؟
- أيوا.
التفت إلى الرجل ثانية وأردف:
- خلاص يا حاج خليهم واحد شطة قليل وواحد كتير.
- حاضر يا ابنى... اتفضل.
ناوله الكأسين، فأخذهما وعاد بهما إلى سلمى التى تقف لدى السور الحديدى للكورنيش مستندة بظهرها عليه، أعطاها الكأس خاصتها فأخذته قائلة بابتسامة امتنان وغنج:
- ميرسى يا زوما.
- على إيه يا ستى بس على الله تستحملى كمية الشطة دى.
ضحكت وقالت:
- يا ابنى حمص الشام من غير شطة كتير ماينفعش.
سارا بمحاذاة النيل يستمتعون بنسمة الهواء الباردة المحملة بقطرات المياه تدلل بشرتيهما، كان الطقس باردًا إلى حد ما، لكن حمص الشام الساخن الحار أشعرهم بالدفء، بدأت سلمى تزفر بحرقة من الشطة متلذذة بها فضحك حازم مشاكسًا:
- أحسن، لما أنتى مش قدها بتاكليها ليه.
دمعت عيناها وردت بعدما تناولى رشفة منه:
- لعلمك دى متعته أصلًا.
- آه ما هو باين.
ضحك أكثر وهو يرمقها بانتصار، وسرعان ما استحالت نظرته إلى نظرة شاردة فى ملامحها وضيقت ابتسامته تلقائيًا وكأنه بات يراها بعين مختلفة فى تلك اللحظة، كانت تلتهم الحمص بعينين دامعتين وشفتين منتفختين محمرتين من أثر الشطة تلعقهما بلسانها وترفرف بيدها عليهما لتخفيف حرقتهما، اقترب منها غافلًا عن جموع الناس من حولهما وتسمرت نظراته على شفتيها، ارتفعت بناظريها عن الكأس لتتفاجأ به على تلك الحالة؛ فاندهشت وثبتت مكانها، ازدردت لعابها الذى أسالته الشطة وهى تحدق به ببلاهة رفع يده إلى وجهها فتابعت حركتها بعينيها الساهمتين، وبينما كان يحدق بشفتيها المثيرتين مسح دمعة فرت من عينها بإصبعه وما لبث أن استفاق من غفلته منبهًا نفسه فى داخله
" إيه ده، اللى بتعمله ده غلط.. دى سلمى يا حازم سلمى ماينفعش تكون نزوة من نزواتك ولا تبص لها البصة دى.. فوق! "
ابتعد فجأة ولاحت على شفتيه ابتسامة مترددة، فبادلته إياها وألقت بنظرها بعيدًا حيثما رأت المركب تسير فى النيل فصاحت هاتفة:
- حازم! المركب اتحركت..أنا.. أنا آسفة بجد.
- ششش بتتأسفى على إيه يا عبيطة أنتِ، المهم إنك مبسوطة.
تهللت أساريرها ولمعت عيناها الداكنتان، وأردفت بنبرة هادئة:
- بس أنت كنت عايزنا نروح معاهم.
استند بظهره إلى السور وقال:
- لا، إحنا جايين علشان ننبسط، وأظن ده ماكنش هيحصل لو رحنا معاهم.
نظرت إلى الأرض تعض شفتيها بأسنانها من الداخل باضطراب، ثم طالعته بنظرة هائمة وسألته بقلب خفَّاق:
- يعنى أنت مبسوط معايا.. احم قصدى...
قاطعها وبتر دابر الإحراج قائلاً:
- طبعًا، احنا على طول بنروح سيسليا، وبنشوف النيل من جوا بس أحيانا بيبقا الكورنيش أحلى بكتير، من زمان جدا ماعملناش كده وكان تغيير.
أومأت راضية وقالت:
- فعلا، تعرف.. المكان ده أكتر مكان بحس فيه بالسلام النفسى.
ضحك مبددًا توتر الأجواء، وقال مجاكرًا:
- يا بنتى أنتِ المفروض توزعى السلام النفسى على العالم ده أنتِ اسمك "سلمى سليم سلامة عبد السلام سالم"، يعنى كمية سلام مش طبيعية.
ومضى ضاحكًا فأخذت تضربه صائحة "أنت مش هتبطل تتنمر عليا يا إبن إكرام"
رد يستفزها: مالها إكرام، لسه جايبك من تحت إيديها من شوية ولا نسيتى..
زمت فمها غيظًا هاتفة بتوعد "طب والله لأوريك يا حازم سلمى كابتن الكيك بوكسينج هتعمل فيك إيه"جعل يضحك، وركض، وركضت خلفه يضحكان وتضحك الناس على أفعالهما الطفولية.
ربما تكمن السعادة فى الأشياء البسيطة، بالقرب من أناس نحبهم ويحبوننا نتصرف معهم على سجيتنا دون تكلف أو افتعال.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الثامن بقلم ياسمين السيد قنديل
٨- المفاجأة الثانية 💥💃
ذات ليلة، عند ذوبان السماء فى لهيب شمسها متجملة بحمرة الشفق، تناولت سلمى هاتفها للمرة الألف بعد إجراء عدة مكالمات يائسة، فقررت تغيير هوية المتصَل به حتى أجابها الطرف الآخر:
- سلمى! ازيك؟
- صفا! هو حازم عندك؟
- لا يا سولى، ده خرج، أنا فكرتك معاه.
- خرج؟ خرج فين وامتى وازاى من غير ما يقوللى؟ وربنا لأنكد عليه.
- إيه حيلك حيلك أومال لو كان جوزك كنتى عملتى فيه إيه؟
- قولى يا رب بس وهو هيشوف اللى عمره ما شافه، أوعدك.
- آه، لا ما هو باين، ربنا يكون فى عونه.
- طب انجزى قولى.
- معرفش يا بنتى هو بعد ما رجع من رحلته النهاردة ونام كالعادة، صحى ولبس واتشيك وحط أغلى برفيوم عنده وخرج وكانت الغزالة رايقة ع الآخر.
- يانهار أبيض، تفتكرى اا... ممكن يكون رايح يقابل واحدة؟
- بهيئته دى، أفتكر جدًا.
- طب أنا أعرف ازاى دلوقتى بكلمه بيكنسل عليا، ماشى.. ماشى يا حازم، والله لأوريه .
ضحكت صفا وقالت:
- هتعملى إيه يعنى؟
- هعمل إيه! هعمل كتير.. كتير أوى، أولا مش هكلمه ولا هرد على مسدجاته ولا مكالماته نهائى never ever...
- لا يا شيخة!
- آه طبعا ده أنا هوريه النكد على أصوله... إيه ده؟
- إيه؟
- ده بيرن عليا.. اقفلى اقفلى.
أطلقت صفا ضحكة رنانة عبر الهاتف وتابعت بتشفٍ:
- والله مهزئة وده اللى مخليه مش معبرك.
- أيوا أنا مهزئة ونص اقفلى بقا.
أغلقت مع صفا، وتنحنحت ثم ردت عليه:
- ألو يا حازم أنت فين و...
صمتت فجأة ما إن وصل مسامعها صوت أنثوى يتحدث بلهجة غريبة بل لغة أغرب؛ فصُرَّ جبينها واحمرَّ وكاد الشرر يتطاير من عينيها إلى كل اتجاه؛ فهتفت بغضب:
- حازم! مين اللى معاك؟
- أيوا يا لوما، بقولك إيه عايزك تيجى لى مطعم فندق موفينبيك.
- اشمعنا ومين اللى معاك بقولك؟
- ما هو ده اللى عايزك تيجى علشانه، اتعرفت على حتة بت كورية يا سلمى، أوووف.. ملكة جمال، برنسيس، تقول للقمر قوم وأنا أقعد مطرحك، عايز أعرفك عليها، علشان 90٪ هتقدم لها قبل ما ترجع من رحلتها.
نزل كلامه عليها كوابل من الثلوج جمدتها وألجمت لسانها، فسكتت، سكتت ولم تعد تعرف كيف يكون النطق، كطفل مازال يتعلم كيف يلملم شتات لسانه ليخرج حروفًا متناسقة على هيئة كلمات، أردف:
- ألو، سلمى أنتى معايا؟
لكن ومع ذلك فهى سلمى، مضيفة الطيران وكابتن الكيك بوكسينج، لن تقف تلك الترهات عائقًا بينها وبين مسعاها فى الحصول على نصفها الثانى، فهى تعتبره ملكها من الأساس فلا وجود لسلمى إن لم يكن حازم مُتنَفسها، ردت بعزيمة تخفى خلفها نية لئيمة لكن كما نعرف كل شىء مباح فى الحب والحرب:
- أيوا سامعاك، وجاية حالا، هو أنا ينفع أتأخر على حدث مهم زى ده بردو.
- اشطا يا سُلُم مستنيك ماتتأخرش.
بعد مرور نصف ساعة، دلفت سلمى مطعم الفندق تبحث بعينيها عن حازم لتجده جالسًا بالفعل مع إحدى فتيات الفوج الكورى يتحدثان و يتضاحكان، فانقضَّت عليهما تدك بكلتا يديها على الطاولة، فجأة هاتفة بلهجة حادة:
- سلام عليكوا !
انتفضت الفتاة وحازم على حد سواء فقال الأخير:
- سلام و رحمة الله و بركاته.. حد يخض حد كده.
ثم التفت إلى الفتاة معتذرًا قائلاً بالانجليزية:
- معذرة يا عزيزتى، لم تكن تقصد، فهى مندفعة قليلا..
هنا لكزته سلمى بغيظ فاستطرد من بين أسنانه يلكمها بأنفها:
- لكنها لطيفة على كل حال.. فهى صديقتى المقربة وأظنك ستحبينها كثيرًا.
ابتسمت الفتاة إلى سلمى مُرحبة فتصنعت سلمى البسمة حالما قام حازم بتقديمها إلى بعض:
- عزيزتى، هذه سلمى صديقتى المقربة، سلمى مين سو.
ردت ببلاهة:
- أنا إيش عرفنى مين سو، بتسألنى أنا؟!
فى تلك اللحظة أصابته هيستريا من الضحك أصابت سلمى والفتاة الكورية بالدهشة؛ فحاول التماسك والتوقف عن الضحك موضحًا:
- لا أنتِ فهمتى غلط، هى اسمها مين سو.
- آااه طب ماتقول كده يا نجم من الأول، منورة يا ست سو.
حنَت الفتاة لها رأسها شاكرة بالرغم من عدم فهمها، لكنها استشفت أنه ترحيبًا بينما مال عليها حازم قائلا:
- بس ايه رأيك بقا، حلوة مش كده؟ مفيهاش غلطة.
ارتفع أحد حاجبيها تضيق عينيها غيظًا، وابتسمت بلؤم هاتفة بنبرة عالية لفتت انتباه الفتاة:
- لا لا يا حازم ده أنت ظلمتها كمان بوصفك ليها تستاهل أكتر من كده.
كانت نبرتها تنم عن التبرم وكأنه قال سوءًا، فاستدعى ذلك من الفتاة أن تسأل عما يقولا فأجابتها سلمى بالكورية:
- لا أبدًا.. إنه يقول فقط أنك لست نوعه المفضل من الفتيات لكنك لست سيئة على أى حال.
تلك الجملة التى عكفت سلمى على حفظها طيلة الطريق من ترجمة جوجل، فكان رد فعل الفتاة الكورية غريبًا بالنسبة لحازم حيث انتصبت باندفاع ترمقه شزرًا، وتمتمت ببعض الكلمات الكورية بغضب، ثم غادرت؛ فتعجب حازم من ذلك قائلا:
- يخرب بيتك أنتى قولتى لها ايه؟
- ولا حاجة زى ما أنت قلت بالظبط.. موزة ومفيهاش غلطة.
- طب و هو ده يزعلها؟! طب هى كانت بتبرطم بتقول ايه قبل ما تمشى؟
- لا دى بسيطة قالت إنك شبه حبيبها القديم، كان حلوف زيك بالظبط.
اتسعت عيناه، وارتفع حاجبيه دهشة:
- حلوف؟! هى قالت حلوف؟
- اومال أنا هكدب عليك!
- شكلَك كده يا سُلُم.. ياللا فى داهية مفكرة نفسها الأميرة ديانا، بينى و بينك مصلحة، طب أنتِ عارفة الرحلة الجاية هتكون لفين؟
زمت فمها بكمد ثم ابتسمت بتكلف :
- لفين، اشجينى.
قال بنبرة حالمة:
- إيطاليا.. ومش هقولك بقا على الايطاليات وجمالهم.. أوف!
اعتصرت قبضتها بغيظ، ثم نهضت لتغادر فاستغرب قائلاً:
- إيه ده، رايح فين؟
- رايحة يا بابا مش رايح هاه! همشى.. اتأخرت.
- طب استنى يا سُلُم هاجى معاك يعنى هقعد لوحدى أعمل إيه!
توقفت أمامه تستشيط غضبا، وأشهرت سبابتها بوجهه قائلة بنبرة تحذيرية:
- آخر مرة هحذرك.. اسمى سلمى مش سُلُم، أنت فاهم.
- يا سلام! ايه الجديد يعنى ما أنتى دايمًا بتعترضى وبقولك سُلُم بردو.. تعالى بس تعالى.
جذبها من يدها، وخرجا من الفندق وهو يتمتم " أنتِ اتعلمتى كورى امتى بقا... "
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل التاسع بقلم ياسمين السيد قنديل
٩- أنوثة💃

دلفت سلمى إلى منزل حازم مزمجرة وحيدة بعد أن تركها أمام باب المنزل وأخبرها أنها سيذهب ليجلب بعض الطعام من السوبر ماركت للعشاء، دخلت إلى الصالة حيث يتواجد الجميع، وجدت أحمد وصفا يجلسان على وسائد مفترشة على الأرض يلعبان بلاى ستيشن على شاشة التلفاز، أما إكرام فكانت جالسة على كنبة الأنتريه وأمامها الطاولة تضع عليها طبقين كبيرين أحدهما فارغًا والآخر به باذنجان أبيض وكوسة وبيدها مقورة تقورّهم بها فهتفت سلمى بضجر:
- إيه ده حد يعمل محشى بالليل.
رمقتها إكرام بتفرُّس فكانت تعلم أن تلك النبرة من الضجر وتلك الملامح الواجمة خلفها غيظٌ وغلٌّ كبير وغالبًا يكون السبب فى ذلك ابنها وحده ليس غيره فردت بهدوء:
- محشى إيه يا هبلة اللى هعمله دلوقتى أنا بحضره لبكرة وعاملة حسابك عارفة إنك بتحبيه.
- محشى آه، محشى إيه بس يا طنط اللى بتتكلمى فيه أنا هطق هفرقع، شوفوا حل فى حازم بدل ما وربنا أرتكب جناية.
ضحك أحمد قائلاً:
- ياما كان نفسى أعمل كده فى صفا وأخليها تلف حوالين نفسها، بس هى تافهة وأنا أتفه منها.
لكزته صفا بضجر طفولى:
- كده يا أحمد طب خد الدراع بقا مش لاعبة معاك هه.
وتركته ونهضت لتجلس بالكرسى المجاور لسلمى، فقال أحمد:
- أحسن قال يعنى بتعرفة تلعبى أوى.
أخرحت له لسانها، ثم التفتت إلى سلمى وقالت:
- اهدى بس يا حبيبتى وقولي لنا إيه اللى حصل ولقيتيه فين؟
ابتسمت سلمى بضيق وقالت:
- عايزة تعرفى البيه كان فين؟ كان شاقط واحدة من الفوج الكورى وبيعرفنى عليها قال إيه عايز يتجوزها.
ضحكت إكرام وصفا ونام أحمد على الأرض من فرط الضحك فتابعت بغيظ:
- اضحكوا اضحكوا.
وضعت إكرام مقورةً على حِجر سلمى، وهى مازالت تضحك قائلة:
- طب سيبك من الهبل ده واقعدى قورى معايا خليني أنجز.
ارتفع حاجب سلمى باندهاش قائلة بكمد:
- تنجزى! تنجزى إيه يا طنط؟ أنا اول مرة أشوف حد بيجيب محصول بدنجان بحاله، إيه يا حبييتى هتأكلى مين كل ده.
ردت إكرام وهى تتفنن فى تقوير إصبع الباذنجان:
- يا بنتى يا حبيبتى ركزى، اتعلمى حاجة تنفعك، معروفة قلب الراجل فى معدته.. اتعلمى لك كام أكله كده ينفعوكى يقوم الواد يحبك.
أشارت سلمى لأحمد هاتفة:
- شوف الحاجّة!
رفع كتفيه وهو يضحك مهمهمًا "ماليش دعوة" فاستأنفت سلمى:
- أكلتين إيه يا طنط، ابنك صحيح طفس بس طفس نسوان مش أكل.
- لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنتى عايزاه يبص فى خلقتك ازاى بعد الدبش اللى بترميه ده، الواد بيدور على واحدة حلوة و شيك و رقيقة وبعد كل الرمرمة اللى رمرمها عايز كمان يجيب واحدة من بره مصر كلها تيجى أنتى تقولى نسوان وطفس، إيه يا بنتى ماتدلعى شوية اعملى الشويتين اللى بتعملوهم فى شغلكوا أومال مضيفين ايه بس!!
- إيه ياا طنط أنتى معايا و لا معاه.. و بعدين مايغركيش الشويتين بتوع الشغل دول مش هتبقى خنقة فيه وبراه.
نهضت الأم تضرب كفًا بكفٍ قائلة:
- أنا ماليش دعوة بالموضوع ده، مفيش فايدة.
- يااا طنط،استنى طيب ا.. أهو أنتى كده كل ما ماتعرفيش تتصرفى معاه تيجى على الغلبانة وتسيبينى وتمشى وتقولى مفيش فايدة.
لم ترد عليها إكرام بل تفاجأت بصوت آخر يرد عليها متسائلًا:
- مفيش فايدة فى إيه بالظبط؟
اتسعت عيناها صدمة تنظر إلى صفا وكأنها تسألها هل هو حقًا فأومأت الأخرى أنه نعم، فأغمضت عينيها تعتصرهما تعض على شفتها بإحراج، ثم سمعته يعيد السؤال مرة أخرى:
- إيه القط كل لسانك؟!
أقنعت نفسها أنه لم يسمع شيئًا من الحوار الذى دار بينهم ربما التقط آخر الكلمات فقط التى لا تدل على شىء فالتفتت إليه ورسمت على وجهها ابتسامة عريضة متكلفة وردت:
- أبدًا يا سيدى، إكرام كانت بتحاول تعلمنى طريقة عمل المحشى بس فشلت كالعادة..علشان كده..هيهيه بس.
- والله، هيهيه وفرحانة.. هتفصلى خايبة كده لحد ما هتعنسى جنبنا.
استحالت نظراتها من الضحك إلى التوعد والنذير بينما جلجلت ضحكة أحمد وكتمت صفا ضحكتها؛ فأردف حازم:
- طب خلاص خلاص ماتبصليش البصة دى أصل بخاف..
- هيهيهيهيهيهي
- ياربى أخلص من نيينينيى تطلع لى فى هيهيههي.
- طب لما تعرف تقولهم الأول ابقا تعالى اتكلم.
- مش هرد عليكى علشان أنا راجل چان، وعلشان أنا أحسن منك مانسيتكيش وأنا بجيب الأكل...
وقذف لها قطعة من شوكولاته جلاكسى بالبندق الكبيرة فالتقطتها منه بمهارة وأخذت تقلبها أمام عينيها بإشمئزاز قائلة:
- إيه ده؟ جايبلى شوكولاته؟
- أى خدمة.
- على فكرة يا حازم أنا مابحبش الشوكولاتة.
- فيه بنت فى الدنيا مابتحبش الشوكولاتة.. ياللا وأنا كنت هعرف منين بقا.
- هقول إيه ما هو الاهتمام ما بيطلبش.
- لا والنبى ما تبتدى الاسطوانة الحمضانة دى..هاتى.
أخذ منها قطعة الشوكولاته وفتحها قائلاً:
- عنك أنتِ، هاكلها أنا خلاص ولاتزعلى نفسك.
قضم منها بتلذذ وأخذ يدندن ليثير غيظها وصعد إلى غرفته، بينما أخذت تحدق فى طيفه باسبهلال.
عادت سلمى إلى منزلها فوجدت والدها نائمًا على الأريكة فى الردهة، فابتسمت واقتربت منه وبهدوء قبَّلت جبهته، أخذت تتأمله، قسماته التى تشبهها إلى حد كبير، تجاعيد وجهه على جانبى عينينه وفمه، لم تنتبه من قبل أنه كبر بالعمر ونال منه الزمن وهو يكرس حياته من أجل ابنته الوحيدة فأخذت تناجيه سرًا:
" يا حبيبى يا بابا، أنا فعلا محظوظة إنى عندى أب زيك، عارفة إن أى حاجة هقولها مش هتوفيك حقك.. عارفة إنك عملت علشانى كتير وحاولت تعوضنى عن أمى وماتحسسنيش بغيابها.. مش هنكر فضلك فى ده أبدًا، وعارفة إنه القدر ومانقدرش نغيره بس تعرف.. مع تقديرى لكل اللى عملته، أنا محتاجة ماما أوى فى اللحظة دى، محتاجة أشرح لها حاجات كتير أوى وآخد رأيها فيها وأسمع نصيحتها وأعمل بيها، حاجات مش هقدر أحكيهالك ومش قادرة أحكيها لحد.. حاجات هتفضل جوايا أنا بس، أنا كبرت وعديت التلاتين سنة ولسه لحد دلوقتى خايفة آخد اقرار بنفسي ومش عارفة إن كنت بتصرف صح ولا غلط، تايهة.. تايهة"
تنهدت.. تنهدت بعمق يشجه الألم، أغمضت عينيها تتمالك نفسها ومررت لسانها على شفتيها الجافتين، ثم قالت بصوت مسموع يغلفه الحنية:
- بابا.. بابا حبيبى، اصحى نام فوق.
استيقظ والدها ونهض شبه مغمض العينين يتمتم "أنتِ جيتى يا حبيبتى"
- آه يا حبيبى، ياللا كمل نومك فوق علشان ضهرك مايرجعش يتعبك تانى .
تثاءب قائلاً:
- ماشى يا حبيبتى، تصبحى على خير.
- وحضرتك من أهله.
صعدت سلمى إلى غرفتها تجر قدميها بتململ، تطوف بها هالة من الطاقة السلبية تنزع منها روحها، تزيد قبضتها عليها فيدفع قلبها إلى الإنفجار، تريد أن تصرخ وتصرخ، أنزلت عنها سدال القوة وباتت عارية أمام نفسها تصارحها وتحادثها، ذلك الحديث الذى طالما هربت منه، لقد انتظرته كثيرًا حتى أوشك المجتمع الرجعى ينعتها بالعانس، صديقاتها فى مثل عمرها أمهات لأبناء، من سوء حظها لم تكون والدتها موجودة لتسمعها ذلك الكلام، ومع أنها دائما ماتستنكر تلك الأقاويل وتفكيرها شأنه شأن تفكير هذا الجيل الذى يعتمد تكوين حياة مهنية قبل الزواج وأن الزواج ليس مهم بالدرجة التى تجعلهن يلهثن خلفه، لكنها ومع كل ذلك، بات يراودها شعور بالخوف، إلاما ستظل تنتظره وهو لايراها سوى صديقته المقربة ولا يعاملها سوى كأنها ذكر مثله، أضحى الأمر مرهقًا إلى حدٍ استنزف معه كل طاقتها، أحست بأنها لو ظلت تفكر دقيقة أخرى ستفقد عقلها أو ستسقط مغشيًا عليها فارتمت على سريرها وأغمضت عينيها طلبًا للنوم حتى دون أن تبدل ثيابها، لكن ارتفع جفنيها فجأة وكأن فكرة وثبت إلى عقلها فنهضت ببعض الحماسة التى بثت إلى دواخلها، فتحت دولابها وأخرجت بعض الفساتين التى أهداها إياها والدها قبل خمس سنوات بعد رحلته الأخيرة لزيارة متحف فى إيطاليا وبينما كانت تخرجهم ألقت نظرة على صف الفساتين التى لم تتطرق لها يدها ذات مرة، فكانت دائمًا تشعر بالخجل حيال ارتداء تلك الفساتين التى تظهر أنوثتها، لقد كانت جميع نزهاتها أو خروجها بشكل عام إما مع والدها أو مع أصدقائها والذى كان يغلب عليهم الذكور نظرًا لتأثرها برفقة حازم منذ نعومة أظافرها فبات أصدقائه هم أصدقائها وإن كانوا سيخرجون معا فليس هناك داعٍ لتلك الفساتين بل كان يغلب على ملابسها الجينز والملابس العملية، حتى ملابس العمل والتى ربما تكون قصيرة إلى حد ما لم تظهر أنوثتها بل كانت عملية أكثر منها مثيرة وهكذا انغمست بين الحياة العملية والحياة الخاصة التى لا تخليان من حازم على كل حال لكنها مع ذلك فقدت أنوثتها أو بالأحرى تناستها.
دخلت غرفة الملابس وارتدت أحد الفساتين القطنية التى تُلبس عادة فى النهار، كان برتقالى اللون مزركشا ببعض الورود الصفراء الصغيرة، ذات حمالة رفيعة، وبعدما انتهت من ارتدائه خرجت، ووقف أمام مرآة التسريحة تطالع نفسها، أحلت ربطة شعرها لينسدل شعرها الأسود الفاحم على كتفيها البرونزيين.
حينذاك كان حازم على وشك أن يغلق ستار نافذته حتما لمحها فعاد بنظره إليها ثانية، متسع العينين، فاغر الفم يطالعها باندهاش ألجم لسانه وتوقفت أنفاسه، فالصمت فى حرم الجمال جمال، هل هذه سلمى؟ ذلك السؤال ما تطرق إلى ذهنه وذهنها فى نفس اللحظة، لكنه سؤال لا يحتاج إلى إجابة، فبداخل كل فتاة جانب أنثوى خفى يكون بإرادتها أن تظهره أو تخفيه، بينما حدثَّت سلمى نفسها فى المرآة بكل ثقة:
" يمكن عملت كده علشان أثبت لنفسى إنى مش سُلُم زى ما بتقول عليا يا حازم، وإن فى إيدى أبقى أحلى بنت فى الدنيا، بس كل حاجة وليها وقتها وزى ما أنا حبيتك زى ما أنت، أنت كمان تحبنى زى ما أنا.. بس ياترى هتحبنى أصلاً؟ امتى هتشوف فيا نصك التانى ولا هيفضل حبك ليا.. مجرد حب إخوات؟"
سمع حازم وجيب قلبه فى تلك اللحظة وكأنه يصعقه، يعاقبه على حماقة حقَّة تملكت من عقله، لكن ما ذنب قلبه فى ذلك، لقد اغتصبت سلمى أنفاسه وأسرت ناظريه لحدٍ لم يكن يتخيله فأغلق الستارة بعنف وأخذ يعنِّف نفسه يهز رأسه يمينًا ويسارًا صارخًا بخفوت " لا لا لا، إيه اللى بتفكر فيه.. ده مش صح ماتخليهاش تفقد ثقتها فيك فى يوم من الأيام، أنت دايما شايفها أختك اللى بتحميها وتقف لها فى أى مشكلة وبتشاركها كل لحظاتك الحلوة والوحشة ماتضيعش كل ده بغباءك، العلاقات دى بتفسد أى حاجة حلوة وممكن نخسر بعض بسببها.. لا لا، مش هسيب ده يحصل".
عادت سلمى إلى غرفة ملابسها وبدَّلت ثيابها بثياب النوم وتمددت على سريرها تتوق للنوم الذى ينتشلها من صراعات الواقع إلى غياهب الأحلام، أما حازم فقد أطفأ ضوء الأباجورة ورفض مواجهة قلبه بما يعتمل به ولاذ بالنوم.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل العاشر بقلم ياسمين السيد قنديل
١٠- ذكرى واهتمام💞

كانت سلمى فى أوج غطيطها، تداعب الآشعة المتسللة وجهها الغضّ بنعومة ورقَّة، قبل أن تفتح عينيها فجأة وكأن أصابها مسٌ من الشيطان ليتناهى إلى مسامعها أصوات وكلمات طائشة حاولت تجميعها حتى أدركت كنهها:
- بقا يا راجل يا مجنون حد يقعد يرسم من صباحية ربنا فى الجنينة ويقلبها كده.
- أنا حر يا أبلة الناظرة، الجنينة دى بتاعتى زى ما هى بتاعتكوا، وبعدين لازم تفهمى كويس إن جارك مش أى حد، أنا فناااان "قالها بتعاظم وتفاخر" بحب أرسم الشروق، أنتى مالك؟ إيه اللى مضايقك، أما ست جر شكل صحيح.
- إيه أبلة الناظرة دى، راجل سوقى ومتخلف وتقوللى فنان؟! وبعدين إيه اللى مضايقنى ازاى.. مش مراعى أبدًا ريحة الألوان الزيت الخنقة دى والزفت التربنتين اللى خنقنا ده.
حينئذ ركض إليهما حازم وسلمى يحولان بينهما، أمسكت سلمى إكرام تحاول جاهدة تهدئتها كما فعل حازم مع سليم " اهدا بس ياعمو، هو إيه اللى حصل لكل ده؟"
صاح سليم غاضبًا:
- بتسألنى إيه اللى حصل، اسأل الست والدتك اللى جاية تقول شكل للبيع من صباحية ربنا.. وبعدين ماسمحلكيش تغلطى فى التربنتين وألوانى دى أشياء مقدسة بالنسبالى مايفهمهاش غير الفنانين وأصحاب الحس الراقى.
صرخت بوجهه بينما تحاول سلمى جذبها للخلف:
- فنان إيه و بتاع إيه وهى دى أخلاق فنان، مفكر نفسك بيكاسو ولا دافينشى يا رسام الكاريكاتير فى مجلات الدرجة العاشرة وقال إيه بيرسم الشروق ونتخنق إحنا بقا، نموت علشان حضرته يرسم.
وقفت بينهم حينذاك سلمى تضع يديها على جانبى دماغها بعدما استنفذت قواها، فصرخت وقد عيل صبرها:
- بس بقا كفاية حرام عليكوا، أنا تعبت من الخناق كل يوم.. كفاية يا بابا كفاية يا طنط حرام عليكوا..
حالة من الصمت نزلت عليهم فهم معتادون على مثل تلك المشاجرات والتى غالبا ما تكون فكاهية بالنسبة لسلمى وحازم والذى انتابه القلق لحالتها هاته فوقف مشدوها مشخصًا نظره عليه علّه يعرف ما سبب وجومها، لاحظ انتفاخ عينيها، أكانت تبكى؟! لكن لماذا؟ هل أزعجها والدها؟ لا أظن فهو لم يفعلها بتاتا أم هل يكون سبب إزعاجها.. أنا؟!!
لكن ماذا فعلت؟
وقف حازم واضعًا يده فى خصره يحك جبهته بأصابعه متأملًا حالما تركتهم سلمى وغادرت لتدخل المنزل فأردف حازم هاتفًا: سلمى!
لم ترد وتابعت سيرها فى خطوات ساخطة فرفع حاجبيه دهشة وسار خلفها: أنتِ يا بت..
استوقفه سليم يمسكه من يده قائلاً:
- إيه رايح فين أنت كمان ، هى وكالة من غير بواب!
تسمر حازم يبدل نظره بين سليم وطيف سلمى مشيرًا بإصبعه عليها متلعثمًا: أنا...سلمى...
فاستطرد والدها:
- بنتى أنا هشوف مالها ياللا اتفضل أنت خد الست والدتك واتكلوا على الله.
ردت إكرام ساخطة:
- يكونش واقفين فى السوق إحنا، إيه ياخدنى دى و...
واشتعلت المناورة بينهما مرة أخرى بينما لم يسمعهما حازم بل ظل واقفا يرمق فراغها يستحضر صورتها المزمجرة وعينيها المنتفختين..أبدًا لم تكن سلمى على هاته الحالة من قبل، ما الذى حل بها، استبدَّ به القلق والحيرة وشعر بجزع وعجر ما لم يستطع التحدث معها ومعرفة سبب ضيقها وإعادة البسمة التى تليق بوجهها الصبوح.
وعلى الرغم من حب سليم لحازم منذ أن كان طفلًا يحبو إلا أنه يكره تعلق قلب ابنتها به، فهو مثله مثل إكرام ربما يرى مستقبلهما معًا أو الحب الذى يكنه كل منهما للآخر،لكن مع ذلك هل تتحقق مقولة دوستيوفيسكى " إنَّ كلُ أبٍ في الدنيا يكنُّ كراهية عميقة لزوج ابنته، مهما تظاهر بالعكس ".
دخلت سلمى غرفتها وأوصدت الباب، ارتمت على سريرها وأطرقت رأسها، تتشبث بلحافها تقبض عليه بكلتا يديها حتى تغضن، ثم رفعت رأسها لتواجه التاريخ الذى يدق فى ساعة الحائط أمامها، لمعت بعينها دمعة وتبعها شلال من الدموع أذرفته بوجع وألم ينالان منها، تتأوه بصوت عالٍ وهى تبكى وتنتحب، صوت استطاع والدها أن يميزه ويعرف سببه دون أن تنبس ببنت شفة..
طرق الباب بوجه أضناه الحزن، يشفق على ابنته وقرَّة فؤاده، تلك الحالة التى تكون عليها فى هذا اليوم من كل سنة، فى الحقيقة هى تتأهب لحزنها ذلك من بداية هذا الشهر وهو شهر ديسمبر، تحاول أن تثبت لنفسها انها قوية بما يكفى لكن ما إن يأتى ويحل حتى تجتمع كل آلام الدنيا بها وكأنها تشهد ذلك اليوم بل وتلك اللحظة فى توّها، جعل والدها يطرق الباب هاتفًا بصوت حنون شابَه نحيبٌ خافت:
- سلمى! افتحى يا بنتى.. افتحى. اوعى تكونى فاكرة إنى مش عارف سبب زعلك وعصبيتك، عارف يا حبيبتى كل اللى أنتى حاسة بيه، مش بس النهاردة، لأ من أياام وأسابيع، عارف إنك مانيستيش اليوم ده وبتحاولى فى كل سنة تستعدى له بكل قوتك.. عارف إنك مشتاقة لها زى ما أنا مشتاق لها بالظبط عارف إنك مفقتقداها وإنى مهما عملت ماقدرتش أعوضك عنها، بس.. بس يا حبيبتى أمك ماسابتناش، روحها معانا فى كل وقت، حاسس بيها فى كل مكان حواليا، ياحبيبتى اللى بنحبها مكانهم فى قلوبنا بنحس بيهم.. وبيحسوا بينا مابيموتوش.. امتى يموتوا؟ لو احنا نسيناهم، لكنها على طول معانا وفى سيرتها دايما كأنها ماسابتناش، كأنها خرجت مشوار وهترجع بعد شوية، عمرنا ماحسينا بفراقها غير بس فى اللحظات اللى نفسنا إنها تضمنا فيها.. أيوا.. بس.. بس أنا موجود يا حبيبتى وحضنى مفتوح لك فى أى وقت. طب تعرفى، أنتِ كنتى عوض ربنا ليا عن مامتك، لما بحضنك مش بس علشان أنتى محتاجة الحضن ده، لا أنا بكون محتاجه أكتر منك، بحس بالأمان وبتدينى الدفعة إنى أكمل... طب إيه مش عايزة تفتحى بقا وتحسسى الراجل العجوز ده إنه مكفيكى...
فى لحظة سمع صوت مزلاج الباب وانفتح لتظهر منه سلمى غارقة فى دموعها فألقت بنفسها بين ذراعى أبيها الذى ضمها وأخذ يربت على ظهرها ويمسد على شعرها بحنان علّه يهدىء من ثورة نفسها التى تنبعث فى دواخلها كلما تذكرت تلك اللحظة حينما عادت من المدرسة تسأل عن والدتها وهى تدندن فرحة تريد إخبارها بحصولها على علامات مرتفعة فى امتحاناتها لكنها عوضًا عن ذلك لم تجد إجابة سوى الصمت المرعب المخيف، والدموع المروعة واللون الأسود المقيت يملأ الأنحاء فكان يشبه حلاك يومها ذلك إلى أن تجاوزت تلك المحنة بعد سنوات من الألم والعلاج النفسى والذى لعبت فيه إكرام وولديها دورا فى محاولة تعويضها عن أمها فكانت إكرام لها الأم وولديها إخوة إلى أن استحالت مشاعرها نحو حازم وتبدلت؛ فـ لجَّ بها الشوق، وذابت فى صبابة الهوى.
كان حازم يذرع الصالة جيئة وذهابًا، زفر طويلًا وألقى بهاتفه على المنضدة بحنق، ثم جلس على المقعد الوثير للصالون منحيًا إلى الأمام، مستندا بذراعيه على ركبتيه يهز ساقيه بعصبية ويحك ذقنه بأصابعه حيرة، يهز رأسه حيرةً وكأن يؤرق تفكيره أمرٌ عسير، فقالت والدته متسائلة:
- إيه يا ابنى قاعد مش على بعضك ليه؟
صمت هنينهة ثم أردف ساهمًا:
- مش عارف يا ماما.. مش عارف، سلمى مش طبيعية، واضح جدًا إن فيه حاجة مضايقاها جامد ودى مش طبيعتها.. وبعدين.. وبعدين كانت معانا لحد بالليل وكويسة إيه اللى حصل لها فجأة؟!
التمع بريقٌ بعين والدته وعقبّت:
- هو من ناحية إن شكلها فيها حاجة مش مظبوطة فهو فعلا كده، بس من إمتى الحنية دى وواخد بالك منها، ها من إمتى؟
اضطرب قائلاً:
- احم.. من إمتى ازاى يعنى، أومال الصحاب لازمتهم إيه؟
- امم صحاب آه، طب ماتكلمها تسألها مالها؟
- على أساس إنى ماعملتش كده! كلمتها طبعا بس مابتردش.
- لا أنا كده ابتديت أقلق عليها فعلا، دى لو ماردتش على العالم كله بترد عليك، ولولا الخناقة اللى دبيتها مع أبوها دلوقتى كنت رحت أطمن عليها.
فى تلك اللحظة رن هاتفه فانتفض والتقطه معتقدًا أنها هى لكن وجد المتصل صديقه عاطف فقطب جبينه مستغربًا لكنه رد، وبعد التحية أخبره عاطف:
- بص بقا يا باشا أنا عامل النهاردة surprise لـ ندى علشان عيد ميلادها وعازم كل أصحابنا ولازم تيجى أنت وسلمى.
تردد حازم فى البداية خاصة بعدما رأى حالة سلمى لكنه وجدها فرصة جيدة ليخرجها من حزنها الذى لا يدرى سببه حتى هذه اللحظة فأجابه:
- أكيد هنيجى إن شاء الله، ابعتلى بس اللوكيشن ومعاد الحفلة وكل سنة وهى طيبة.
- تمام يا صاحبى وأنت طيب.. سلام.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الحادي عشر بقلم ياسمين السيد قنديل
١١- عيد الميلاد🎉
فضلَّت سلمى الاختلاء بنفسها فى ذلك اليوم، فانزوت بغرفتها؛ وانزوى الألم فى قلبها، وأخذت الذكريات تعيث فى رأسها فتستذكر فى مخيلتها مواقفها مع والدتها بين الضحك واللعب والمذاكرة والتمرين وحتى العقاب على الأخطاء، تموء اشتياقًا لمعايشة تلك اللحظات ولو لدقيقة واحدة.
كان يراودها هاجس بين الحين والآخر يتحرش بسلامِ قلبها أنها ربما تنسى ملامح والدتها يومًا بمرور الزمن، فقفزت من مكانها وركضت إلى إحدى الخزائن بغرفتها وفتحتها دون مهلٍ بيدين مرتجفتين، لتخرج منها ألبومًا من الصور الفوتوغرافية، أخذته وعادت إلى سريرها وتربعت عليه ثم شرعت فى فتح الألبوم تشاهد به صورة تلو الأخرى، تأخذ وقتها مع كل صورة تستذكر بها الموقف الذى التُقطت فيه، اغرورقت عيناها وامتزجت ضحكاتها على بعض الصور بدموعها اللاهبة، أخرجت بعض الصور من الألبوم وقربتها منها بحزن دفين، تتنهد بألم يشج صدرها لوعةً وإيلامًا، ابتلَّت إحدى الصور بدموعها حتى كادت تهترىء؛ فضمتها إلى صدرها بكلتا يديها واعتصرت عينيها تبكى وتبكى، ولمَ تخفى حزنها؟ استحياءًا من جدران الغرفة مثلا، فإن فاض بها شجنها فربما يقتلها بطيئًا بطيئًا، ربما كان على أحدٍ أن يشاركها ذلك الحزن ويخفف عنها فمن المعروف إن شاركتَ أحدًا بهمِّك يَخِف عنك ثقل حمله.. ربما!
ضرب عينيها اضاءة الشاشة فتبينت أن حازم يتصل بها، لكنها لا تريد أن تتحدث مع أحد كائنًا من كان، فرفضت استقبال مكالمته، لم تمر دقيقة حتى وصلتها منه رسالة عبر الواتساب ففتحتها " ردى يا سلمى أرجوكى، أنا مش عارف مالك ولا إيه اللى بيحصل معاكى بس اللى متأكد منه إنى مش مستحمل أشوف الحزن فى عينيكى وأقف عاجز كده مش عارف حتى أتكلم معاكى ولا أخفف عنك، وأقسم بالله لو عرفت إن حد مضايقك همحيه من على وش الأرض، أنا ماتعودتش أشوفك كده ولا هسمح لحد يوصلك للحالة دى.. أرجوكى ردى"
أغمضت عينيها وهنًا، تتساءل فى نفسها حسرةً ماذا يريد هو الآخر، فلقد كان رحيل أمها سبب تعاستها الأول، أما السبب الثانى فلم يكن سوى.. هو!
تحب الحياة برفقته، تشعر بلذَّتها وحلوها معه، لكن مغالاته فى اللامبالاة التى يظهرها نحوها تغمرها باليأس والاغتمام، انتشلها من عتابها له اتصاله للمرة الألف فالتقطت هاتفة وضغطت زر الرد حيثما أتاها صوته متلهفًا:
- أخيرًا.. أخيرًا رديتى! إيه يا سلمى أنتى عمرك ماعملتيها.
مسحت دموعها وردت بصوت مبحوح:
- معلش يا حازم، مخنوقة شوية وعايزة أبقى لوحدى.
- المفروض إنى كده أطمن؟ سلمى! سلمى أنتِ بتعيطى؟
صمتت وانهارت فى البكاء لاتعرف هل كل هذا الشجو من أجل افتقادها والدتها فقط، أم أنها جعلت من روحها زوبعة تقدس الآلام فتكبتها بها حينًا بعد حينٍ حتى انفجرت روحهتا ولم تعد تحتمل.
- سلمى! سلمى طب اهدى، وقوليلى لو سمحتى مالك، والله هعمل أى حاجة تطلعك من الحالة دى حتى اا.. لو اضطريت أقلب لك أراجوز، عارفك بتحبيهم..
ضحكَ حينما سمع ضحكة هاربة منها؛ فابتسم وتنهد بارتياح، ثم قال:
- ها بقا، احكيلى يا ست البنات.
ردت بمشاكسة ليست غريبة عنها:
- امم دلوقتى بقيت ست البنات.
- مؤقتًا بس لحد ماتخرجى من حالتك دى وهترجعى سُلُم على طول.
ضحكت أكثر فضحك هو الآخر منتظرًا منها تفسيرًا لحالتها فأردفت:
- مفيش يا سيدى، بس النهاردة كان ذكرى وفاة ماما وأنا مفتقداها جدا فااا.. بس علشان كده.
-آااه صح 25 ديسمبر، ازاى فاتتنى دى؟ أنا آسف يا لوما..
ران عليهما الصمت للحظات حتى قطعه حازم قائلاً:
- طب بقولك إيه، ماتيجى نخرج علشان نغير المود؟
همَّت بالاعتراض لكنه أصرّ على رأيه فلم تجد أمام عناده سوى الرضوخ لطلبه، واتفقا على أن يخرجا بعد ساعتين.
نزلت من بيتها لتجده مستندًا بظهره على سيارته يعبث بهاتفه، فأخذت نفسًا من شأنه أن يشعرها ببعض الراحة، تقدمت نحوه وفتحت البوابة؛ فانتبه لها وانفرجت أساريره بابتسامة جذابة كان حريٌّ بها أن تخطف قلبها ليحلق إليه ويستكين على صدره، ليتها تستطيع فعل ذلك، هذا ما كان يجول بخاطرها، وقفت أمامه متسائلة بنبرة حاولت جاهدة أن تبدو طبيعية:
- ها هتاخدنى على فين؟
أشار لها بعينيه إلى السيارة قائلاً:
- اركبى ولما نوصل هتعرفى.
ضاقت عينيها وتغضَّن بين حاجبيها مبتسمة وهى تقول:
- امم، هو سر ولا إيه؟
تركها ومشى نحو باب السيارة الآخر وفتحه شارعًا ذراعه يطلب منها الدخول بإحترام مجيبًا:
- حاجة زى كده، اتفضلى!
ضحكت من طريقته المسرحية وركبت السيارة، ثم احتل هو المقعد بجانبها وشغل لها أغنيتها المفضلة "Alarm" فانتشى وجهها وبدأ العبوس يضمحل وينمحى أمام رقة أفعاله وتصرفاته لإسعادها.
ظلت سلمى شاردة طوال الطريق تنظر إلى الخارج عبر النافذة ترمق السيارات والناس والأضواء المزدحمة، وكأنها تضاهيها فى زحمة الأفكار داخل رأسها حتى أنها لم تنتبه أى طريق يسلكانه، ظلت هكذا تارة وتندمج مع حازم على إحدى الأغانى تارة أخرى مكتفية بالدندنة الخافتة أو التبسم فقط، حتى توقف حازم بالسيارة أمام روزا كافيه فى مدينة نصر، فتعجبت وتمتمت بلهجة يشملها الاستغراب:
- روزا كافيه! اشمعنا؟
التفت لها حازم مستندًا بذراعه على ظهر مقعده قائلا:
- عاطف يا ستى.. عامل Surprise لـ ندى بمناسبة عيد ميلادها وعزمنا وعازم كل أصحابنا وكده.
ابتسمت مندهشة " والله! "ثم تابعت:
- طب مش كنت تعرفنى علشان ألبس حاجة مناسبة.
قالتها وهى تشير إلى نفسها فبحركة تلقائية شخَّص نظره عليها،كانت ترتدى بنطالًا بنى اللون وسترة تحتية بيضاء من الصوف، يعلوها جاكت جلدى قصير باللون الأحمر الناصع و يتدلى على صدرها قلادة فضية مرصعة باللآلىء.
فابتسم ومط شفتيه معقبًا:
- زى القمر.
كان ذلك الإطراء صدمةً لها، شفق وجهها وزاغت ببصرها بعيدًا، تعيد خصلة خلف أذنها وهى لا تستطيع السيطرة على ابتسامتها فضحك، لكنها استطردت لتهرب من ذلك المأزق:
- بس كويس ده معناه إن العلاقة بينهم اتصلحت وبقت أفضل.
رمقها بنظرة جانبية متسائلًا:
- تفتكرى؟
- أعتقد كده، ما هو أصل محدش بيهتم بحد غير وكان جواه مشاعر حلوة ليه و محوش له فى قلبه حب كبير..
كان ينصت إلى حديثها باهتمام، فـ تاه فى كلماتها، يعلم أن كلامها صحيح، لكن أليس هذا ما يفعله معها؟! ألم يهتم بها أكثر من أى أحد؟ ألم يأبه لسعادتها وحزنها؟ ألم يجن جنونه إذ رأى الحزن يكتسى وجهها؟ ظل محدقًا بها لايسمع ماذا تقول لكنه ضل السبيل فى بحور عينيها حتى بات قلبه يخفق وارتجفت إحدى أنامله غصبًا، انتبهت سلمى لتحديقه به فتعجبت بل وارتبكت وهى مازالت تتابع:
- .. هو بس كتر المشاكل بين الطرفين ممكن يعمل فتور و.. بس بعد كدا... يعن..ى..
تصلبت الكلمات على طرف لسانها، ولم تعد تعرف ماذا كانت تود أن تقول، تلاقت الأعين، ونسى اللسان كيف يكون الكلام، فالقلب هو سيد الموقف فى هذه اللحظة، حتى رن جرس منبه عقله يوبخه " ماذا تفعل أيها الأحمق".
جفل حازم واستفاق من غياهب شروده خجلا قائلاً بعد ان أبعد عينيه عنها متظاهرًا أنه يأخذ أشياءه من السيارة:
- مش ياللا بينا!
أومأت بابتسامة صغيرة و نزلا من السيارة، حينها أعطاها حازم علبة هدايا مغلفة بورق أزرق لامع وشريطة حمراء وكان يحمل أخرى مثيلتها :
- أنا.. جبتلك الهدية دى تقدميها لـ ندى، كنت عارف أنك مش فى المود تختارى هدايا وكده.
اتسعت ابتسامتها وأخذتها منه شاكرة، تعلم فى قرارة نفسها أن اهتمامه بأدق تفاصيلها لهو جاهل به رغم أنه شغله الشاغل، لكن هكذا يكون الحب، أن تفعل الأشياء بغير حساب، فقط يدفعك قلبك دفعًا.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الثاني عشر بقلم ياسمين السيد قنديل
١٢- عرض صادم
ارتقى حازم وسلمى الدرج الخارجى للكافيه، حتى دلفا من بابه المُعلق من فوقه لوحة إعلانية تحمل اسم الكافيه على هيئة اضاءات منيرة، كان المكان من الداخل دافىء الأجواء، تغلب عليه الأضواء الخافتة الدافئة، يعج بالموسيقى والحركة، جالا ببصرهما حتى وجدا أصدقاءهما حينذاك لمحهما عاطف أيضًا فأشار لندى كى يرحبا بهما وهمّا بلقائهما، صاح عاطف:
- أهلا يا حازم، ازيك يا سلمى! مبسوط انكم جيتوا.
حازم بابتهاج:
- واحنا نقدر نتأخر بردو.
وابتسمت سلمى وقدمت هديتها لندى قائلة بمرح حاولت اظهاره وقد نجحت بعض الشىء:
- كل سنة وأنتِ طيبة يا نودى.
قبّلتها بخفة وردت ندى برقتها المعهودة:
- وأنتِ طيبة يا روحى.. ميرسى.
أردف عاطف:
- طب تعالوا، الشلة كلها جوا مقضيينها رقص ومطلعين عين الدى جيه.
ضحك حازم وسلمى وسارا معهما إلى الداخل، كان صوت الدى چى عالٍ لدرجة أجفلت لها سلمى وبدأ وجيب قلبها يزداد بقوة لكنها حاولت أن تتناسى وتفرح مع أصدقائها، ما كادا يجلسان إلى الطاولة حتى رآهما ماجد واندفع نحوهما مرحًا مادًا يده لمصافحة سلمى قائلا بمبالغة:
- سلمى! ازيك؟ مبسوط أوى إنى شفتك النهاردة.
تعجب حازم من فعله المبالغ به حتى أنه لم يأبه لوجود حازم ولم يعره اهتمامًا وتعلقت أنظار بيده الممدودة لها بحنقٍ بالغ فشدَّ فكه محاولا السيطرة على أعصابه، بينما ابتسمت سلمى ولم تنتبه لمغالاته فى الأمر وصافحته لكنه ظل ممسكًا بيدها وهو يتابع:
- المرة اللي فاتت رضوى قالتلى إنكوا جيتوا ومشيتوا، كان فيه حاجة ولا إيه؟
انزعجت سلمى لإمساكه يدها فحاولت سحبها وهى تجيبه:
- لا.. إحنا بس خرجنا نجيب حاجة ولما رجعنا المركب كانت مشيت.
لم تستطع تملص يدها منه وريثما قررت إصدار رد فعل، كان حازم سبقها وشدَّ يده يصافحه ضاغطًا عليه بقوة آلمته فقال ماجد بهزر:
- إيه ياعم، هتجمد علينا ولا إيه؟
حدق به حازم بنظرات ثابتة ثاقبة قائلا:
- لا ده بس علشان لما أكون موجود، تبقى تاخد بالك.
ثم ابتسم له ابتسامة ذات مغزى فردّها له ماجد بتردد واضطراب، فقالت سلمى محاولة تقليل التوتر الذى ساد الأجواء حولهم:
- صحيح، أومال رانيا فين؟
لوى ماجد فمه وكأن سؤالها زاد الأمر سوءًا، صمت برهة ثم أجابها:
- لما عرفت إن أنا جاى ماجتش؟
تساءلت عن السبب بينما أحضر النادل لهما المشروبات،ثم أجابها ماجد:
- أبدًا، أنتم عارفين رانيا كانت بتعشم نفسها كتير..
رد حازم دون تفكير:
- ما أنت لو ماكنتش بتديها سبب للعشم ده ماكنتش اتعشمت و لا ايه.
رشف من كأسه بينما رمقه ماجد بنظرة ساخرة وأطلق ضحكة صغيرة قائلًا:
- ولا عمرى اديتها أى سبب حتى إنى لما لقيت سقف تصوراتها وطموحها بدأ يعلى صارحتها بالحقيقة علشان ماتعيشِّ فى الوهم كتير.
قطبت سلمى جبينها متسائلة:
- حقيقة؟ حقيقة إيه؟
ابتسم ماجد ناظرًا إليها من دون حازم وأجابها بنبرة واثقة:
- حقيقة إنى بحب واحدة تانية.
قبض حازم على كأس العصير خاصته بغضب، بل يستشيط غضبًا حتى أنه لم يشعر بنفسه سوى وهو يلقى بالكأس أرضًا، ليصمت الآخر وانتبهت سلمى وسألته:
- إيه ده، فيه إيه يا حازم مالك؟
تنهد حازم ورفرف بعينيه محاولا عدم اظهار غضبه؛ فرسم شبه ابتسامة على ثغره قائلاً:
- مفيش وقعت غصب عنى... أنا هطلع برة شوية أشم هوا، الجو هنا خنقة أوى.
أشار للنادل لينظف العصير المسكوب وخرج من الكافيه. وقف أعلى الدرج أمام مدخل الكافيه، انحنى بيأس واضعًا يديه على ركبتيه ضجرًا زافرًا بعزم قوته ثم اعتدل وركل الأرض بقدمه، ثم وقف يتنفس بعمق وهدوء ليهدىء من ثائرته ويتمكن من تمضية الحفلة بسلام درءًا للمشاكل.
باغته صوت من خلفه فالتفت إذ به يجد ماجد قادمًا إليه، فشدَّ على قبضته غيظًا بينما قال ماجد بحبور يحتل قسمات وجهه:
- كويس إنك خرجت.
إلتفت إليه حازم مسبهلًا:
- نعم!
تدارك ماجد خطأه وقال محاولا التصحيح:
- لا.. أقصد إنى كنت عايز أكلمك فى موضوع بعيد عن سلمى وماكنتش عايزها تاخد بالها.
قطب حازم حاجبيه متعجبًا:
- وإيه بقا الموضوع ده؟
- سلمى!
- مالها؟ قالها بطريقة آلية.
- أنا بصراحة كده، معجب بيها (انتصب حازم فى وقفته وظهر الغلّ على ملامحه) أنا مش عايز أفاتحها فى الموضوع يعنى خفت يكون ليها رأى تانى، فقلت أقولك، أنت قريب منها و...
- بس بس، إيه اللى أنت بتقوله ده، لا طبعًا.
تعجب ماجد مستهجنًا ردة فعله:
- هو إيه اللى لأ، لأ مش عايز تقول لها ولا لأ إيه بالظبط.
- لا على كل حاجة... ما ماينفعش، ماينفعش خالص اللى أنت بتقوله ده.
- ليه يا ابنى، على حد علمى سلمى مش مرتبطة و..
- يوووه، أنت مابتفهمش قولتلك، سلمى لا، تمام؟
- وأنا من حقى أعرف ماينفعش ليه... حازم، أنت بتحب سلمى؟
صُدم حازم من سؤاله، وكأن دلوًا من المياه الباردة انسكب عليه ليطفىء نيرانه المتوهجة ويحل محلها برودة الحيرة ومواجهة الأمر الواقع، لماذا تلك الاستماتة فى دفع ماجد بعيدًا عنها، لمَ لم يتحمل تخيل، مجرد تخيل لشكل تلك العلاقة، يبدو على ماجد أنه مغرمًا بحقٍ، فلمَ يحرمها من تلك الفرصة، وعلى الرغم من أن تفكيره لم يجنِ نفعًا فى تلك اللحظة فراح يكمل فى صراخه:
- إيه اللى بتقوله ده أنت اتجننت، أنا وسلمى أصحاب وهى زى أختى.
- خلاص يبقى اثبتلى ده، وعرفها إنى مستعد أتقدم لها بكرة لو وافقت.
- أنت واحد مجنون!
تركه ودلف إلى الداخل بحثًا عن سلمى حتى وجدها تقف مع ندى وبعض الفتيات فجذبها على حين غرة وأخذها وخرج من الكافيه غير آبه لشكلهما أو لنداءات عاطف وندى المستميتة، حتى أدخلها السيارة وغادر بعنف ممزوج بغضب ساحق، مصدرًا دويًا بمحركات سيارته أعلى من صوت الموسيقى بالداخل بينما كانت سلمى فزعة من تصرفه وهيئته المزرية.
حاولت سلمى التحدث وفهم سبب غضبه إلى هذا الحد لكنه أوقفها بإشارة من يده، تعرفها جيدًا فهو يفعل ذلك حينما يكون على وشك الانفجار إذا سمع حرفًا من أحد، لكنه فى ذلك الوقت يعمل على تهدئة ثورته داخليًا واطفاء النيران الناشبة بصدره وهذا ما كان يحدث فأخذ يناجى نفسه سرًا:
- الحيوان الصايع.. قال بيحبها وعايز يتقدم لها، لا وبيتحدانى كمان، ماشى ورحمة أبويا... إيه سكتّ ليه، علشا عارف إنك غلطان ولا مستغرب نفسك، مش أنت اللى كنت مستعد تعمل أى حاجة علشان تخلى سلمى تكسر دايرتها اللى قافلها عليك وعليها وتشوف حياتها وتبطل ترفض الناس اللى بتتقدم لها وتقرب منها، مش أنت وافقت بس إنك تمثل إنك هتتجوز علشان تقتنع هى إنها مش فى دماغك.. وأهو مرادك اتحقق بدون تعب ولا مجهود، زعلان ليه بقا.. أيوا زعلان، زعلان علشان مش ماجد هو اللى يستاهلها.. ليه إيه اللى يعيبه.. اا بتاع بنات عشِّم كذا واحدة قبل كده وسابهم وآخرهم رانيا.. يا سلام بذمتك أنت مقتنع باللى بتقوله، أومال لو ماكنتش حاضر حكايتهم من الأول وأنه صاحبك من زمان.. أيوا يعنى إيه يعنى.. يعنى إيه.. يعنى إيــــــــــه؟!!
استفاق على صياح سلمى وهى تهزه بقوة وصوت بوق السيارة على أشده:
- حازم.. حااازم!! إيه بتزمر ليه، الشارع فاضى.
رفع يده عن مزمار السيارة وانحرف بها على غفلة ثم أوقفها على جنبٍ متنهدًا، فسألته:
- حازم أنت كويس؟
هز رأسه أنه بخير وأعاد رأسه إلى الورا وأغلق عينيه يتابع حديثه مع نفسه منهيًا إياه بقبول التحدى وأنه سيخبرها بما أراده ماجد وليكن القرار قرارها فى النهاية، كانت فى ذلك الوقت تساله بإلحاح:
- يا حازم أنت مش عايز تقوللى ليه، إيه اللى حصل خلاك بالحالة دى و..
صمتت حينما شعرت بلمسة يديه على يديها، ونظر إليها متبسمًا فابتسمت عيناها بالتماعة أضفت عليهما سحرًا فوق سحرٍ، ثم أردف:
- صدقينى مفيش حاجة، انسى الموضوع ده، فى موضوع تانى عايز أكلمك فيه.. هى أول مرة تحصل وأول مرة أتحط فى الموقف ده، صحيح حصلت قبل كده مع ناس كتير بس ماكانوش سلمى..
تعجبت لكلامه وأصابها الاندهاش لكنها مع ذلك أحست بعلو مكانتها لديه، تسلل إليها شعاع من الأمل أنه ربما يكون أخيرًا انتوى أن... لا لا لن تسبق الأحداث، يُفضَّل لو سمعت ورأت بعينيها عوضًا عن الخيال الذى يسرق نصف الانتشاء بالمفاجأة، شجعته على الاسترسال بإيماءة من عينيها، فقال ومازال ممسكًا بيدها:
- ماجد!
هذا آخر ما كانت تتوقع سماعه، ما الذى أتى باسمه ضمن حديثهما الخاص، فتابع ليكبح لجام حيرتها:
- ماجد كان بيتكلم معايا.. ويعنى.. هو اا.. معجب بيكى و ب.. بيقول إنه بيحبك وعايز يتقرب منك بس خايف إن...
أخرسته بتلك الدمعة الهاربة من عينها وسحب يدها التى شعر بها باردة كالثلج، فغرت فاها باستنكار تحملق فيه بصدمة وقد باتت عيناها كالشلال تذرف الدموع بغير حساب وهى ترمقه بنظره ثاقبه إلى ان حُلَّت عقدة لسانها وصرخت به بحرقة:
- أنت إيه يا أخى..ها أنت إيه،لوح تلج؟ مابتحسش؟ أنت جاى تقوللى أنا كده وبكل بجاحة.. حرام عليك بقا حرااام، أنا استحملتك كتير و جاى تقوللى...
- سلمى افهمينى..
- افهم إيه؟ هاه أفهم إيه..أنت سبت حاجة تجرحنى وماعملتهاش؟.. ماتعملش نفسك مش فاهم، إنت عارف كويس مشاعرى ناحيتك ومتأكدة من مشاعرك كمان و...
- مشاعر إيه يا سلمى، أنتى فاهمة غلط، أنا بعتبرك أختى، أختى اللى أمى ماخلفتهاش، طول عمرى شايفك كده ومقدرش أشوفك غير كده..
كانت كلماته كالسكين التلم التى وجدت عنق ذبيحتها وراحت تتلذذ بآلامها، بينما تابع حازم:
- أنا مش قاصد أجرحك بالعكس، اللى يفكر إنه يأذيكى أنا مش هرحمه ومش هسمح لحد يمس شعرة منك..
- ليه؟ هاه ليه؟
- لأن ده حق أختى وصديقتى عليا، صدقينى حب الصداقة والأخوة هو اللى باقى، الحب التانى ده مش حقيقة ومش بيصمد وممكن فى أى لحظة ينتهى ومش ده اللى بيربطنا يا سلمى..
اعتصرت عينيها وبلعت جرح كرامتها ومشاعرها،ثم نظرت إليه وعلى وجهها شبه ابتسامة تكاد تظهر وسط بحيرة الدموع ثم قالت بخفوت:
- اللى بيربطنا حب اخوات، مش كده؟!
هرب بعينيه بعيدًا وهز رأسه أنه نعم فهزت رأسها متفهمة ثم قالت:
- تمام.. تمام، وأنا محترمة مشاعرك.. الجميلة دى وبقولك تبلغ ماجد إنى موافقة.
صدمه قرارها المفاجىء والذى لم يتخيله قط:
- سلمى!
- أفندم؟ إيه مش ده اللى أنت عايزه، مالك بقا؟
- أنا مش عايز حاجة يا سلمى غير إنك تكونى سعيدة فى حياتك و.. ماجد!! تفتكرى هو ده اللى هيسعدك؟
رمقته بنظرة جانبية ثاقبة وأردفت بثقة تشدد على كلماتها:
- آه، أفتكر.. و لو سمحت ياللا نمشى من هنا.
- يا سلمى..
- لو سمحت!!
انصاع لرغبتها وشغل السيارة مستكملا طريقه، يطوف بهما الصمت فى دوائر فارغة لا نهاية لها، تتقاطع فى كل مرة ليعرف كل منهما ما يجول بخاطر الآخر لكن دون سبيل للهداية، قلب محطم وآخر أحمق، ليس بوسعهما البقاء أكثر، ظل كل واحد فى عالمه حتى توقفت السيارة أمام منزل سلمى. فنزلت من سيارته دون أن تودعه وأغلقت بابها بعنف ترجرج له زجاج النوافذ، ثم دلفت إلى منزلها بخطوات غاضبة لكنها كانت مثيرة وواثقة أيضًا فأسرت ناظريه لدقائق حتى بعد أن اختفت عن ناظريه، ندت عنه تنهيدة تحمِل من الآلام ما يكفيه ويفيض، ثم عاد إلى منزله يجر أذيال الخيبة والندم.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الثالث عشر بقلم ياسمين السيد قنديل
١٣- صدمة💥
دموع هوارة، روح تحترق، قلب يتحطم، سِرب من الأحلام المحلقة بعيدًا سقطت من سابع سماء إلى هوة لا قرار لها، هكذا تقول الحكمة كلما حلَّقت عاليًا وعلا سقف أحلامك كانت نتائج السقطة لا يُحمَد عقباها.
تقوقعت فى نفسها على فراشها، تضم ركبتيها إلى صدرها وكأنما تحتمى بنفسها من هلاك يتمثل فى وحشٍ خفى يتخفى فى كلمة أكبر.. ألا وهى الفراق.
هل ستخسر معركتها بهذه السهولة وتخضع للأمر الواقع ولتلك الترهات التى يتفوه بها حبيب عمرها، انهال عليها وابلٌ من الذكريات منذ طفولتهما وحتى وقتهما هذا، هل لا يهمَّه أن تكون لأحد غيره، ألم يغَر من الفكرة حتى؟ أم أنه فعلاً يحبها حبًا أخويًا وهى من أساءت فهمه كل تلك السنوات،أيًا يكن ففيمَ سيهم ذلك الآن؟ لن يتغير فى الأمر شيء، بل عليها هى أن تتغير وتتخطى الأمر وذلك ما قررت فعله وأصرَّت عليه، لا تعرف كيف ستفعل ذلك، كيف ستفترق عنه وهى تتنفسه، كيف ستحجب عينيها عن رؤيته، وهى تبحث عنه فى كل شىء، بدا لها الأمر مجحفًا غير محتمل، لكن عليها فعل ذلك وإن استجمعت كل ما تملك من قوة لتواجه ذلك الحب الآثم، الحب الذى كان ذنبه الوحيد أنه من طرف واحد، ربما لم يكن يتوجب عليها أخذ تلك العلاقة فى منحنى آخر دون الصداقة فربما لو وضِعت كل علاقة فى نصابها الصحيح لما هَلكت القلوب، أو تبددت الذكريات الحلوة ليصبح تذكرها لعنة تنكأ على جرح لم ولن يندمل ما حيي المرء، وها هى قد اتخذت قرارها بتقلُّص وجوده فى حياتها، لكن لا تعلم إن كانت ستمحيه بتاتًا، فحتى أمر رؤيته صدفة لهو أكثر احتمالًا من رؤيته عمدًا، لكن عليها فعل ذلك لا محالة.
لم يزره النوم أيضًا، ولم يتزحزح عن نافذة غرفته ما دام يرى غرفتها مضاءة لم تنطفىء بعد، يروى له قلبه كيف حالتها وأن عينيها جفتا من الدمع المذروف، فهو دون أن يراها يمكنه الشعور بها، إن لم يكن ذلك حبًا، فما يكون اسمه إذن؟ لقد شرع يتأرجح فى دوامة من الحماقة الحقة، لكن ما كان يسيطر على عقله هو حمايتها منه، إذ لم يشعر ذات مرة بأن ذلك هو الحب الذى يحلم أن يحياه، يعلم أنه اعتاد عليها فى حياته وأنها كذلك مما يجعلها أعز الناس إلى قلبه، لكن لا يعنى أن يكون ذلك حبًا من نوعٍ آخر دون الصداقة والأخوة، تفاجأ بدمعة ساخنة تنساب على خده، ينفطر قلبه عليها وهو يشعر بذنب كسر قلبها ويبرر لنفسه أن الجرح من شأنه أن يكون أعمق لو استمرت فى خداع نفسها، ظلّ هكذا حتى مضت الساعة الثالثة ونصف صباحًا، إذ لم يشعر بحاله وقد نام على حافة النافذة، واستيقظ على صوت آذان الفجر، انتفض منتصبًا مذعورًا، يستجمع ذاكرته، ثم ألقى نظرة على نافذتها فوجدها منطفأة؛ فعاد إلى فراشه ظنًا منه أنها خلدت للنوم.
فى منزل سلمى:
خرجت سلمى من غرفتها فى زي عملها تجُر من خلفها حقيبتها الصغيرة، ثم توقفت أمام غرفة والدها، تركت حقيبتها وفتحت باب غرفته بهدوء كى لا توقظه، لكنها لم تنجح فى ذلك فقد كان نومه خفيفًا يستيقظ فزعًا على أقل الأشياء، نهض مسرعًا ملتقطًا نظارته وأضاء الأباجورة بجانبه فهرعت نحوه وجلست أمامه قائلة:
- اهدا يا حبيبى.. أنتا جيت أسلم عليك قبل ما أمشى، يعنى قبل ما أروح الشغل.
كان يضغط سليم على يدها وهو يلهث، فاستشعرت أنه هناك أمرٌ خاطىء يحدث معه فسألته مرتبكة:
- مالك يا بابا، معقول كل ده من فتحة الباب؟
- لا.. لا ياحبيبتى بس..
- بس إيه؟
صمت هنيهة هاربًا بعينيه عنها ثم قال:
- مفيش حاجة يا حبيبتى، مفيش حاجة، أنتى.. أنتى رايحة الشغل النهاردة، يعنى أقصد رحلتك فين وهترجعى امتى؟
قطبت حاجبيها وأحست أن والدها هناك ما يزعجه لكنها تنهدت بألم فما زال الوجع الذى خلَّفه لها حازم لم يبرحها، بدأت تسرد عليه:
- الرحلة هتطلع من القاهرة لباريس الساعة ٧ و....
كان والدها يستمع إليها متغضن الوجه، ينتابه نوبة من الهلع إثر ذلك الكابوس المروع الذى أخفاه عن ابنته لكنه لم يكن يشعر بأوصاله المتجمدة المرتجفة يتمنى لو يفعل ما يمليه عليه قلبه، لكن لا حجة له فى ذلك.
استأذنته ابنته كى لا تتأخر وأمَّنته على نفسه حتما تعود إليه، وبينما كانت على عتبة الباب، التفتت لتنظر إليه وقبل أن تغادر هتف هو:
- سلمى! خلى بالك من نفسك يا حبيبتى، واذكرى ربنا على طول، ربنا يحميكى يا بنتى.
أومأت بابتسامة هادئة يشوبها الحزن، ثم أخذت حقيبتها وغادرت.
لم ينعم قلب سليم بالراحة منذ مغادرة فتاته، فعزم على الخروج إلى الحديقة واستنشاق هواءً عليلًا، حينذاك وجد الأرنب يأكل من الكرفس خاصته فابتسم بينما ما إن رآه الأرنب حاول الفرار لكنه أمسك به يمسِّد على ظهره بحنو هامسًا:
- ماتخافش ماتخفافش.. كل براحتك، طب أقولك سر أنا كل الزرع ده عاملهولك مخصوص علشان تبقى مسمار جحا اللى أقدر من خلاله أتكلم معاها، بس خليها فى سرك بقا.
ثم ضحك وترك الأرنب ياكل، يتابعه بنظراته المتأملة فقد وجد فيه ملهاته ولو قليلًا، لكن الشمس اشتدت فى ذلك الوقت فآثر الدخول إلى المنزل حيث كان التلفاز مفتوحًا على قناة الآخبار لتلقط أذنيه ذلك النبأ المروع:
"عاجل.. تحطم طائرة مصر للطيران المتجهة من مطار القاهرة إلى باريس فوق البحر المتوسط صباح اليوم إثر نشوب حريق فى مقصورة القيادة وقد انتقلت النيران فى باقى أجزاء الطائرة بسرعة كبيرة مما أفقد السيطرة عليها، وقد أسفر عن الحادث مقتل 66 شخصًا فضلا عن أفراد طاقم الطائرة الذين لقوا مصرعهم جراء ذلك الحادث المروع".
- سلمى! سلمى بنتى..
خرجت الخادمة من المطبخ هلعًا على صوته،بينما تابع بصدمة:
- دى دى دى الطيارة اللى كانت ركباها.. لا لأ، سلمى.. أه آااه.. آااه.
سقط سليم أرضًا ممسكا بصدره فاقدًا للوعى، بينما صرخت الخادمة تولول:
- سليم بيه.. سليم بيه.
لا تعرف ماذا تفعل غير أنها ركضت إلى فيلا حازم حتما رأتها إكرام على تلك الحالة الفزعة نهضت مذعورة:
- إيه يا سنية مالك فيه إيه؟
- الحقينى يا ست هانم، سليم بيه وقع شكلها نوبة القلب ومحدش هنا.
سمعها حازم بينما كان ينزل من الأعلى فركض وركض خلفه أحمد إلى فيلا سليم بينما سأل حازم أحمد أن يطلب الإسعاف على الفور، ثم دلفا إلى الفيلا يهرعان إلى الرجل المسجى أرضًا يتحسس حازم نبضه بفزع" يارب استر يا رب " ثم سأل الخادمة "هى سلمى فين؟"
- فى الشغل يا حازم بيه.
- طب هو إيه اللى خصل فجأة؟ فيه حاجة ضايقته؟
- مش عارفة أنا شفته من شباك المطبخ بيشوف الأخبار وفجأة..آه قعد يصرخ ويقول سلمى بنتى وفى الطيارة بس مافهمتش حاجة.
- أنا فهمت، يا خبر أسود..لا أكيد لأ، الحق يا حازم.
كان ذلك صوت أحمد، فالتفت حازم مذعورًا إلى التلفاز فى حال دخلت إكرام وصفا وشرع حازم فى قراءة النبأ بصوت مسموع
" تحطم طائرة مصر للطيران المتجهة من مطار القاهرة إلى باريس فوق البحر المتوسط صباح اليوم إثر نشوب حريق فى مقصورة القيادة وقد انتقلت النيران فى باقى أجزاء الطائرة بسرعة كبيرة مما أفقد السيطرة عليها، وقد أسفر عن الحادث مقتل 66 شخصًا فضلا عن أفراد طاقم الطائرة الذين لقوا مصرعهم جراء ذلك الحادث المروع".
اتسعت حدقتا حازم فى صدمة ذعر كاد يقتله فى التو ويقضى عليه متمتمًا بشفاه مرتجفة "يعنى إيه.. يقصد إن سلمى فى الطيارة دى " ثم صرخ بالخادمة:
- لا لا لا، أنتى أكيد فهمتى غلط.. أنتى غبية ازاى تقولى كده مش عارفة كلامك ده ممكن يحصل بسببه إيه.. أكيد غلطانة..لا..لا..
لم تتحمل إكرام تلك الفكرة فشهقت بل صرخت وحاولت صفا تهدئتها والكل فى حالة غيبوبة ترفض تقبل الواقع هناك فقط هزيز من الأمل يتشبثون به أن يكون كل ذلك سوء فهم ليس إلا، لكن سلبهم من كل ذلك صوت سرينة الإسعاف فأخبرهم حازم بأن يذهبوا مع سليم بينما سيذهب هو إلى المطار ليتحقق من الأمر.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الرابع عشر بقلم ياسمين السيد قنديل
١٤- أمر واقع

أوقف حازم سيارته بعنف فى موقف سيارات المطار، ونزل منها بسرعة ينهش الخوف قلبه بضراوة، دلف إلى إحدى الصالات هرعاً ينهب الأرض بقدمه نهبًا والفزع يحتل قسماته، أوقف ساقيه عن مواصلة ركضه بشكل مفاجىء ريثما ظهر أمامه صديقه سامى والذى هاتفه وأوكله بالتحرى فى أمر سلمى، لكن هل فعلًا يسود وجهه علامات الأسى أم يتهيأ له؟ لمَ يسدل وجهه بخجل، ويهز رأسه بحزن مرير؟ انهارت قوى حازم التى استجمعها بصعوبة للصمود على أمل أن يكون كل ذلك هذيان، سوء فهم، أيًا يكن لكنه لن يكون واقعًا، لم يعد بوسعه سوى الإستسلام الذى فاق قواه العقلية والجسدية، وفقد حقه فى السيطرة عليهم فسقط على ركبتيه التى تلاشت أعصابهما دفعة واحدة وظل يصرخ باكيًا، فعلٌ لا يليق برجل شرقى كما يدَّعون، لكن هول الصدمة قد يفقد الإنسان عقله مهما كان يحمل من قوة ورباطة جأش. صبرٌ، تحمل، إيمان، قوة، كل ذلك انهار ولم يبق منه حتى الفتات، فقط بُنيَ من اللاشىء جدران سوداء خانقة حول روحه تقبضها شرَّ قبضة، تنبئه بنهاية حياته هو الآخر، فـعلى كلٍ ما كانت حياته سوى سلمى وها هو فقدها فى عشيةٍ وضحاها، شريط من الذكريات يمر أمام عينيه كعرض سينمائى انتهى بأحداث الليلة السابقة، هل ماتت غاضبة منه، كيف كان أحمق إلى ذلك الحد، كانت تلك الذكريات تتوالى على عقله دون هوادة بأسلوب العرض السريع؛ فتنكأ جراحه حديثة عهدها فيصرخ بألم مرير بعلو صوته "سلمـى!" هل لن يراها مرة أخرى؟ ألن يخرج الآن يجدها تنتظره فوق سيارته، ألف تساؤل وتساؤل كان من شأنهم القضاء عليه فى التو واللحظة، كل ذكرى كانت كالسيف يغرز نصله بفؤاده فينزف حزنًا ومرارة، حاول سامى تهدئته لكنه لم يفلح، بل نهض حازم على غير هُدى وخرج بلا نُهى، يدور به العالم فتصبح سماءه أرضه وأرضه سماءه.
كانت تلك حالة الجميع، حالة من عدم التصديق، انتشر السواد فى الأرواح قبل المظاهر، قضوا أسوأ ثلاثة أيام قبل وصول رفات سلمى إلى مصر ومن ثم إلى مشرحة زينهم، ذلك المكان البغيض الذى عجَّ بأرواح الموتى تلفه بمشاعر مختلطة بين غضب وحزن وألم وصراخ يمكن للعاملين بها أن يسمعوه ليلًا وربما نهارًا، نزل سليم من السيارة أمام المشرحة يسانده أحمد، لم تقوى ساقيه على حمله ينتفض قلبه وكأنما يُصعق بالكهرباء يبكى ويشهق وينتحب، فقُرَّة عينه وحب حياته وونيسته تركته وتركت عالمه، لطالما حمل همّ يوم أن يتركها فى الدنيا لوحدها ويغادر إلى العالم الآخر، وكيف ستتحمل وكيف سيكون مطمئنًا عليها، لكنه اليوم يشهد هو وفاتها، هى التى تركته وليس هو.
مشى حازم خلفهما إلى داخل النشرحة مغيب العقل بارد المشاعر فقد باتت أحاسيسه تضاهى الثلج فى برودته وكأنما الدم قد توقف عن السريان فى عروقه، كان وجهه شاحبًا باليًا، غادره نضارة الشباب وحل محلّه بياض أوجه الموتى، الموت! أخذت رائحته تستفز أنفه كلما خطا خطوة اتجاه الثلاجة، لا يعرف أين هو ولا لماذا هل سيسقط على الأرض من فراشه ويستفيق ليجد نفسه يحلم،أهو منامًا؟ لم يعمل عقله كثيرًا على تلك الفكرة فقد أفزعه صوت والد سلمى وهو يبكى متمتمًا " لا إله إلا الله الله ولا حول ولا قوة إلا بالله " أخذ يرددها بصوت متقطع مُحشرج وتمامه إحدى خزانات الثلاجة بها جسمان مهترىء مشوه بالحروق وتآكل المياه للجسد، منظر تقشعر له الأبدان ويخشع له كل زاهد فى الدنيا، جسد بالٍ يتوجه ذلك الوشم أسفل الرقبة بحرفى SH، ذلك فقط ما ردّ حازم من غيبوبته فانتفض جسده شرّ انتفاضة وكأنما كان ميتًا وصحا بفعل صدمات الكهرباء، يعرف ذلك الوشم جيدًا ويحفظه عن ظهر قلب ،التفت سليم وأحمد ليخرجا من الثلاجة بعد التعرف عليها ومازال يردد سليم " لا إله إلا الله الله ولا حول ولا قوة إلا بالله " مستندًا على يدى أحمد الذى تعجب من اختفاء حازم فجأة، لقد كان معهما فى الثلاجة وفجاة لم يجداه، اعتقد أنه غادر غير متحملًا لرؤية صديقته فى تلك الحالة وأخذ سليم وغادرا، بينما استمعت جدران تلك المشرحة لشهقات قهرٍ لم تشهدها من قبل بالرغم بكل ما تمر به يوميًا من صراخ وعويل وأحزان، اهتزت جدرانها ألمًا كأنها تواسيه وتشاركه حزنه الذى لو وزع على العالم أكمله لزاد وفاض، حادث مفاجىء غير متوقع يقلب الحياة رأسًا على عقب، لن أبالغ إن قلت أن صدمته فاقت صدمة والدها نفسه بكثير، لم يكن يعلم أن أنفاسه بيدها يمكنها أن تسلبه إياهم بإختفائها من حياته، لم يكن بذلك الضعف من قبل حتى حينما فقد والده والذى كان مرتبطًا به ارتباطًا وثيقًا لم يشعر حينها بأن روحه غادرته مثلما يحدث فى هذا الوقت.. أين سيروح وأين سيغدو لا يعلم...
وبعد ثلاثة أيام أخرى أمضاهم حازم على النافذة المطلة على نافذة سلمى لا يتزحزح عنها، تنهال الدموع من عينيه بلا استدعاء ولم يرَ جفنيه النوم لحظة واحدة حتى أنه رفض مواساة أصدقائه بل ورفض مقابلتهم من الأساس، ولم تكُف إكرام عن البكاء لكنها حاولت التماسك فمَن غيرها سيدعم ابنها كى يتخطى تلك المصيبة، بينما صفا ظلت فى حالة صدمة يومين كاملين لم تنزل منها دمعة واحدة ومن بعدها لم تعد تسيطر على عينيها التى قاربت على الجفاف، حالما يسلك أحمد درب والدته فيدعم زوجته تارة وسليم تارة أخرى.
" ليه يا سلمى؟ ليه عملتى فيا كده؟ أنتى أكتر حد عارف إنى ماليش حد غيرك، مهما عرفت ناس ومهما كونت صداقات، مفيش غيرك اللى بحكيله وبشكيله ويشاركنى فرحى وحزنى، مش قادر أصدق إن ده عقابك ليا، أنا كنت مغفل، وحيوان وحمار إنى ما فهمتش الحقيقة الوحيدة فى حياتى مش إنى بحبك.. لأ، الحقيقة هى إنك كل حياتى..."
انجلى قناع الرجل وهوى، وحل محله الطفل الذى يبكى بعدما ضلّ عن أمه، يخشى الفقد ويفكر كيف سيتدبر حياته بدونها، لم يعد يمتلك من قوة التحمل أو الصبر مثقال ذرة من خردل. فأخذ قراره أو بالأحرى دفعه عقله إلى خيار واحد كى يحظى بالنجاة من الموت أو الإذهاب بعقله، وهو نكران الواقع والهروب منه، لم يكن الهروب ذات يوم حلًا عوضًا عن مواجهة مصائبنا، لكنه فقد حقه حتى فى المواجهة.
بعد يومين، تسلم والد سلمى رفاتها وتصريح دفنها، ذلك اليوم الأبشع على الإطلاق والذى أعلن فيه حازم عن اضمحلال شجاعته بتركه المنزل بل المدينة بأكملها هاربًا بعيدًا، لا يمكنه رؤية ذلك المشهد الذى يعد له النهاية، وكأنه عقاب منها بصفة شخصية وكأنها أرادت أن تحرق قلبه وتعلمه بقيمتها التى لم يقدرها فى حياتها، وها هو يذرف من الدموع شلالًا قربانًا لها، لكن هل من ذهب يمكنه أن يعود، يمكن هذا إن كان مازال فى الحياة الدنيا، إنها حقًا دنيا وفانية، فى رمشة طرف قد تسلبك أعز ما تملك، وتقف تنظرك بعين الشماتة فأنت من أضعت فرصتك مرة واثنين وثلاث، أغدقت عليك بالفرص لكنك آثرت التأرجح فى حماقتك فهل من مغيث الآن، ربما يكون الصبر هو أكبر منحة قد تمنحك إياها، فهل ستتقبل روحك العزاء أم ستترفع عنه وتضيع تلك الفرصة أيضًا.
صرخت إكرام باكية تتشبث بذراع ابنها:
- يا ابنى حرام عليك ماتوجعش قلبى أكتر ما هو موجوع، عيب كده لازم تحضر دفنتها و..
- بس بقا بس.. حرام عليكى ماتقوليش كده، سلمى ماماتتش، ومش عايز أسمع الكلمة دى تانى، أنا سايب لكم البيت وماشى لا سايبلكم البلد كلها، انسونى.. أقول لك اعتبرونى أنا اللى مُتّ.
- يا حازم.. يا حازم..
- إيه يا ماما فيه إيه؟ هتف أحمد فزعًا ووهو ينزل من الطابق الثانى فأردفت إكرام بذعر وهى تبكى:
- الحق أخوك يا أحمد، شوفه رايح فين، حالته ماتطمنش.
لم يحتمل حازم فكرة أن جسدها سيوارى تحت التراب، بل لم يرد أن يصدق من الأساس أن تلك الجثة هى صديقة عمره سلمى، لم ينس بشاعة المنظر الذى يقبض روحه آلاف المرات فى اليوم الواحد، لم يحتمل رؤية السواد والاغتمام منتشرًا حوله فى كل مكان، ووالدها الذى يموت بالبطىء حزنًا على ابنته ولم يستطع فعل شيء له، لقد كانت فاجعة بكل المقاييس، نالت منهم وكأنها تخليص ذنب عظيم قد ارتكبوه بحبهم لها، لقد كانت هى بهجة المنزلين بحقٍ، لم يحتمل حازم المكوث فى منزله لحظة واحدة بعد ذلك فكل مكان يذكرّه بها، يقف فى الشرفة معتقدًا أنها ستخرج له مثل كل مرة متذكرًا مواقف سيدها الضحك والسعادة متمثلة فى غمازتها الساحرة والتماعة عينيها الداكنتين على ضوء القمر، ينزل من غرفته ليراها فى الصالة هنا كانت تجلس مع والدته وهنا كانت تجرى خلفه فى الصغر وفى الكبر، وهنا كانت تلعب معه بلايستيشن وكانت وكانت... سيل جارف من الذكريات اللامتناهية تتوافد إلى ذاكرته فيصرخ بين الحين والآخر كحوت غاضب يختنق، فما كان له سوى أن يترك المنزل ويبتعد ويترك لنفسه المجال إن كان يحبس نفسه فى الماضى أو يحمل نفسه على تصديق الواقع دون حتى أن يعرف إلى أين سيذهب، لكنه يريد الابتعاد عن كل ما يحمل رائحتها وذكرياتها وإن حمله ذلك على وأد نفسه التى تحمل نفس الذكريات بداخلها ليست الأماكن فحسب.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل الخامس عشر بقلم ياسمين السيد قنديل
١٥- ذكريات
مشى سليم عبر الرواق بساقين مرتجفتين وظهرٍ احدودب من ثقل الألم متجهًا إلى غرفة ابنته، وقف أمامها وكاد قلبه أن ينخلع من صدره، آلمته نغزة شجَّت صدره؛ فاندفع ماء عينيه متجمعًا فى مدمعيه، وضع يده على مقبض الباب واستجمع قوى أعصابه وفتح الباب إلى آخره، ظل واقفًا يتأمل غرفتها البيضاء وقد انهالت الدموع لتغرق وجهه؛ فخلع نظارته، ومسح دموعه، ثم خطا أول خطوة بصعوبة إلى داخلها يرى فى كل خطوة مشهدًا لإبنته منذ أن كانت طفلةً تحبو وحتما كانت فى حضنه تبكى فقدان أمها قبل الحادث بليلة واحدة. انحنى بجسده ومد يده إلى لحافها الأبيض المفترش على سريرها يمسِّد عليه بارتجاف، ثم جلس على السرير يعلو صدره ويهبط بقوة مغتصبًا أنفاسه من الهواء، التفت إلى الكومود بجانبه فوجد إطارًا صغيرًا يحوى صورة لها وهى صغيرة ويحتضنها والداها، أخذ يبكى بصوت عالٍ وهو يضم ذلك الإطار إلى صدره يهمهم :
" آااه يا بنتى.. آه يا حبيبتى، لو تعرفى النار اللى قايدة جوا قلبى، خلاص قلبى اتحرق وبقا رماد، هعيش لمين بعدك يا حبيبتى.. استغفر الله العظيم، تعرفى..اللى مصبرنى دلوقتى إنى عارف إنك فرحانة مع مامتك، كنتى بتبكى من كام يوم علشان وحَشِتِك مامتك وأنا دلوقتى اللى ببكى إنى مش عارف أشوفك وألمسك وآخدك فى حضنى، هتوحشينى أوى يا بنتى وهيوحشنى هزارك وضحكتك وشقاوتك، أنتِ اللى كنتى عاملة للبيت ده حس، بصى شوفيه دلوقتى عامل ازاى، بيت مهجور يقبض القلب،هتوحشينى يا حبيبتى.. هتوحشينى لحد ما أجيلك..."
قطع مناجاته لابنته تيارٌ من الهواء عبر النافذة قذف إليه بمظروف أبيض كان على الفراش ولم يلحظه، فكفكف دمعه والتقطه بتعجب؛ فوجده قد كتب عليه من الخارج "إلى بابا حبيبى"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على متن الطائرة المتجهة إلى روما، طلب حازم من مساعده أن يحل محله لأنه تَعب، ثم نهض عن مقعده خارجًا من مقصورة القيادة إلى منطقة عمل المضيفات، كانت سلمى خلف بارٍ خشبى تجهز بعض المشروبات لركاب الدرجة الأولى، فسقط قرطها ونزلت لتبحث عنه حتى وجدته، وما إن نهضت وهى تضعه فى أذنها حتى فوجئت بحازم فكادت أن تصرخ فزعًا لولا أن وضع يده على فمها، فبرقت عيناها فى تساؤل مشوب بتوبيخ حينئذ لاحت نظرة تشفٍ من حازم ورفع يده عن فمها فهتفت بصياح خافت:
- إيه اللى جابك هنا يا حازم.
اقتطف حبة عنب من سلة الفواكه الموضوعة على البار وقال لاغاظتها:
- هو أنا جاى بيتكوا، أعمل إيه المضيفة اللى هنا مش واخده بالها من شغلها قلت آجى آخد اللى أنا عايزه بنفسى.
خرجت من خلف البار، ومثلت أمامه واضعة ذراعها بخصرها قائلة بتحدٍ وغيظ:
- علة أساس مفيش غيري فى الطيارة دى، الرحمة يارب هلاقيها منين ولا منين..
قاطعها ببرود ملتهمًا حبة عنب أخرى:
- والله ده شغلك، مش قده سبيبه لغيرك.
اقتربت منه خطوة تزم فمها حتى كاد يختفى من وجهها، تضيق عينيها وكأنها تركز الشرر المندفع منهما إليه، تشهر سبابتها فى وجهه قائلة بنبرة تحذير:
- عارف يا حازم..
- كابتن حازم. قال مقاطعًا نكاية بها فتابعت:
- عارف يا حازم لو قولتلى الجملة دى تاا..آااه.
لم يكتمل تهديدها، وفلتَ عن فمها صرخة خفيفة كتمها حازم بكفه حالما اصطدمت به جراء مطبًا هوائيًا؛ فالتقطها وعدل من وضعها قبل أن يسقطا هما الاثنان، لكنه أمسك بيدها وجلسا بأرض الطائرة بجوار البار كإجراء احترازى حتى تنتهى تلك الصدمات، رمقت سلمى يده المحتضنة يدها وطالعته بعينين شغوفتين، يجذبها حينما يكون جادًا فى بدلة عمله فيبدو شخصية مسؤولة وصاحبة قرار ويأسرها حينما يتجرد من بدلته الرسمية ليصبح صديق عمرها وحبيبها المرِح ذا الحس الفكاهى، استفاقت من شرودها حينما ارتقى بجسده وترك يدها؛ فأجفلت ونهضت هى الأخرى حيث سمعته يقول وهو يضع يديه في جيبي بنطاله الأزرق:
- شوفتى! مش كابتن حازم اللى يتهدد يا سُلم.
غمز لها وابتسم بانتصار ثم غادر إلى مقصورة القيادة حالما كانت ترمقه دون أن تنطق بحرف بل كان قلبها يقول الكثير.
سالت الدموع من عيني حازم المغمضتين، متذكرًا ذلك الموقف الطريف بينهما فى الطائرة، يعتصر قلبه وكأنه فى قبضة شيطان لا يرحم، لكنه على أية حال أضحى يكره أكثر شيء أحبه وسعى إليه كثيرًا، لذا أقدم على فعلٍ لم يتخيل أنه سيفعله يومًا، فقد قدم طلب بقبول استقالته قبل ساعة واحدة من تلك اللحظة، لم يعد يرى نفسه قادرًا على رؤية طائرة بعد الآن فما بالك بقيادتها والتحليق بها يحمل معه أرواحًا قد يغدر بهم القدر فى لحظة. لكن هل عاهدنا القدر بالخلود مثلًا؟
كان حازم حينئذٍ متوقفًا بسيارته على جانب طريق إسكندرية الصحراوى، قبض بكلتا يديه على عجلة القيادة بسخط كبير، وانطلق بسيارته يدفعها بكل ما أوتى من قوة، قوة ولَّدها به الوجع والتمرد وكأنه يدفع بنفسه إلى الجحيم.
نهب الطريق نهبًا لا يشغل باله إلى أى وجهة يصبو، فقط يرنو إلى تفريغ غضبه بأية طريقة، كاد يفتعل بدل الحادث مائة وهو يرى فى كل مرة موقف له مع سلمى فيسرح به ويعيش تفاصيله غافلاً عن الطريق، حتما وجد نفسه يقف أمام الشاليه خاصتهم فى الجونة بعد خمس ساعات متواصلة من القيادة، سقط برأسه على عجلة القيادة ومازال يمسكها بكلتا يديه وأخذ يضرب رأسه بها بعنف ويأس، ينتفض انتحابًا ثم رفع رأسه وأطلق صرخة مدوية إلى عنان السماء، يدوى صدى صوته فى الأرجاء الفارغة، لا يسكنها سوى الصمت والسكون حيث أنه فى ذلك الوقت من السنة لم يسكن أحد مساكنهم وربما هذا ما دفعه إليه اللاوعى فهو لا يحتاج لرؤية إنسان، فقط نفسه.
نزل من سيارته، ورفع بعض خصلات شعره المتناثرة عن وجهه والتقط حقيبة ملابسه متقدمًا من باب الشاليه، ثم أخرج من جيبه سلسلة مفاتيح وأمسك بواحد منهم وفتح الباب ليهاجمه المنزل برائحة الغبار المتكدس على الأثاثات كما عدم التهوية، وكأن المنزل رافض وجوده ويطرده بلباقة، تذكر أن والدته تدفع لخفير يأتى كل فترة ليهتم بالشاليه وتنظيفه لكنه كالعادة يدس النقود بجيبه ولا يقوم بمهامه فمن سيراجع خلفه.
أسقط حازم الحقيبة من يده ودلف، لا يهمه إن كان يلفه الجو بالغبار أو غيره فقد كان مرهقًا إلى حد لا يجعله فى حالة لتأمل الجيد من السيء، أخرج هاتفه من جيبه وأرسل رسالة إلى والدته يخبرها بمكانه وأنه سيغلق جميع وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعى ريثما تهدأ روحه المحترقة، وتنطفىء نيران فؤاده المشتعلة.
ثم ألقى بنفسه بإنهاك على الأريكة فزفرت كومًا من الأتربة أزعجته لكنه لم يقم من مكانه بل ربما دخل فى حالة إغماء أجبره مخّه عليها كى يستريح عقله من عناء التفكير وتقليب الذكريات التى تحرقه وتستنزفه حيًا.
- حازم! حازم! قالت سلمى برقة وخفوت وحالما لم تجد مردودًا قالت بلهجة بها بعض الامتعاض:
- ياللا يا حازم اصحى بقا كفاية كسل..
فتح حازم عينيه ليجدها تجلس بجانبه على الأرض أسفل الأريكة، يلوح شعاع ذهبى من شمس الصباح على وجهها الحنطى فتلألأت وجنتها كالذهب الألق، ابتسم حازم برضا وداعب وجنتها بأصابع حانية فأغمضت عينيها لبرهة، ثم أمسكت بكفه وطبعت قبلة عميقة بباطنه وفجأة!!
اختفت ولم يعد لها أثر فأخذ ينادى عليها بهلع " سلمى! سلمى! "
- سلمـــــــــى!!
استفاق من حلمه المنشود صارخًا باسمها، وعندما تلفَّتَ حوله يستجمع شتاته وأين هو وما لم يجدها، دفن وجهه بيأسٍ بين راحتيه وأخذ يبكى حتى تورمت عيناه.
نهض مترنحًا يفكر فيمَ يمكنه أن يفعل فحاول أن ينظف البيت قليلًا لأن يصلح ليعيش به بشرٌ، وعلى الرغم من أن مرور الوقت يخفف مقدار الوجع إلا أن حازم كان يزداد وجعه كل يومٍ عن سابقه، لا يدرى هل هذا ضعف إرادة منه أم أن الأمر أكبر منه ولا يمكنه تداركه فى أيام ولا أسابيع وربما ولا شهور حتى، فى الحقيقة هو لم ينتوى أصلاً تدارك الأمر، لقد هرب من منزله لئلا تهاجمه ذكرياته معها لكنه لم يعرف أنه أتى هنا ليعيش معها.. بمفردهما.
مر منذ مجيئه هذا المكان أسبوعان ولم تبرحه سلمى بل كانت تعيش بقلبه وتتجسد روحها لعينيه، هل الأمر كذلك أم أنه يتوهم وقد سلك دربًا من البرانويا أو الاسكيزوفرينيا، لا يهم. فقط ما يصبره هو رؤيته لها ومعايشة بعض المواقف معها، هذا ما يعزِّيه ويصبِّره حتى بات يقتنع أن من نحبهم لن يموتوا لأنهم يعيشون بقلوبنا وأرواحهم تحوم حولنا طوال الوقت، هذا ما أقنعته به سلمى فى إحدى الليالى الماضية حينما كان جالسًا فى شرفة الشاليه يطالع صورها بهاتفه، وقد أغرق شاشته بماء دمعه فسمع صوتًا رزينًا:
- ليه الحزن ده كله، معقول ده حازم اللى أنا أعرفه؟!
التفت ليجدها تقف بجانبه تطالعه بنظرات لومٍ على حالته المضنية حيث اليأس المتجلى على وجهه وذقنه الطويلة الغير مشذبة وشعره المشعث ونحافته فى تلك الأيام القلائل، تنهد بألمٍ اختلج ضلوعه وقال من بين شفتيه المرتجفتين:
- مفتقدك أوى يا سلمى، عمرى ماتخيلت إنى ممكن أخسرك بالسرعة دى، عمرى ماتخيلت حياتى من غيرك، مش قادر...
- ششش..
وضعت اصبعها على فمه، وجلست بجانبه على ذراع الأريكة الخوصية، ثم ضمت رأسه إلى صدرها تمسد على شعره وتابعت:
- اهدا يا حازم، أنت مش بالضعف ده ومش لازم تكون فى الحالة دى، لو فاكر إن اللى بيموتوا مش معاكوا تبقى غلطان. أنا عايشة فى قلبك طول ما أنت بتحبنى وبتفتكرنى، بكون حواليك وبفرح لما بشوف ابتسامتك وبشاركك حزنك زى ماعملت دلوقتى ومش هسيبك أبدًا، بشرط واحد..
ارتفع برأسه إليها مستفهمًا بتوسل، فاستطردت:
- إنى أفضل هنا. قالتها مشيرة باصبعها إلى قلبه؛ فأومأ لها باكيًا فاحتضنته وظلت بجانبه حتى غفا. وحينما استيقظ فى الصباح على صوت شدو عصافير ترفرف فوقه وجد نفسه بمفرده نائمًا على الأريكة فى الخارج..
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل السادس عشر بقلم ياسمين السيد قنديل
١٦- حب اخوات💔

بدأ الأسبوع الثالث ولم يتغير من وضع حازم شيء، خرج فى الصباح فى جولة إلى الشاطىء، فربما يمده ببعض الارتياح والسلام النفسى، ولم يكن يعرف أن حوريته تنتظره هناك فى ردائها الأبيض منسدلٌ على كتفيها شعرها الناعم متلألئة خصلاته اللامعة، متذمرة من تأخيره فانبسطت أساريره واعتذر منها اعتذارًا رومانسيًا بتقيبل يدها ثم حملها ودخل البحر بها لقضاء وقتٍ ممتع، وعلى الرغم من برودة الجو لكن على ما يبدو أن الشمس أرادت منحه بعض السعادة بتدفئة المياه قليلًا.
تمر الأيام والليالى ويقضى معها أسعد لحظاته تارة فى المطبخ أثناء تحضيره الطعام الذى لا يأكله فى الغالب، وتارة أخرى يراها على فراشه تنام بجانبه بوداعةٍ وحينًا آخر يتشاجران كما كان يفعلان دائمًا، ربما كل ذلك ما كان يتمنى حازم أن يحياه مع سلمى وقد تخزَّن بنقطة غامضة فى عقله فلم يدركه طوال تلك السنوات، لكنها بقيت حيّة فى قلبه، لكن أخيرًا وبعد كل ذلك، ألم يفقد عقله؟!
فى أحد الأيام، وبينما كان ممدًا على الأريكة فى الصالة بجانب النافذة الزجاجية، لفحت نسمات عبيرها أنفه، فساقته إليها يبحث عن وجودها حتى تنعمت عيناه بالنظر إليها ثانية فكانت تقف سلمى فى الشرفة وبيدها هاتفها تستمع إلى أغنية لطالما كرهتها ولم يكن يعرف حازم حينها السبب:
بالنسبة لي هو الدنيا واللي فيها
وبحس بيه حتى لو في بينا مسافات
بالنسبة له انا اكتر بنت بيثق فيها
وقبل ما اطلبه واجي اطلبه الاقيه ع اللباب
يشكيلي همه واشكيله همي
وطول الليل على التلفون بنسهر بالساعات
وصحيح في بينا حكاوي كتيره جميله وذكريات
لكن حبه ليا طول عمره كان حب اخوات
ابتلت لحيته بدموع الندم، واستيقظ مجفلًا، تضرم الذكريات نارها فى مرجل قلبه بلا هوادة.. ذكريات؟! هل ستكون هذه هى مكانتها فى حياته؟ مجرد ذكرى! كانت الأغنية مازالت ترن بأذنيه فعلم أن أحدًا ما بالخارج يُشغلها بمكبر صوت، استبدَّ به الغضب ونهض نهضة الليث ليرى من ذلك الأحمق الذى حرمه دقائق نومه التى باتت تأبى الإنصياع لرغبة جفنيه حتى حفهما السواد وصار يشبه فى هيئته المدمنين، لا فارق بينه وبينهم. فتح النافذة بعنف وجال بعينيه حتى لمح أحدهم من ظهره فناداه:
- يا كابتن.. يااا أستاذ!
التفت إليه شابٌ مراهق مستفهمًا فتابع حازم:
- لو سمحت الصوت بس، مش عارف أنام.
أشار له الشاب بيده معتذرًا وأخفض الصوت حالما جذب انتباه حازم قبل أن يغلق النافذة صوت أنثوى:
- حازم! هاى ازيك، إيه المفاجأة دى؟
- لمياء!
لمياء هى جارته فى ذلك المكان، ابنة رجل أعمال كبير ومعروف يمتلك الشاليه المجاور لحازم، لكن لمياء سافرت منذ عشر سنوات لتستكمل دراستها بالخارج ولم يرها منذ ذلك الحين، كانت لمياء فتاة جذابة ذات شعر غجرى أسود لامع يصل طوله بعد كتفيها بقليل وتتمتع ببشرة برونزية سفتعها أشعة الشمس، وشفتين ممتلئتين ورديتين وعينين سوداوين كاحلتين بالإضافة إلى قدها الممشوق الساحر وكانت ترتدى حيئذ ملابس الشاطىء متمثلة في قطعة علوية بيضاء بلا أكمام و قطعة سفلية شيفونية مزركشة محكمة بربطة على جانبها.
على الشاطىء، حيث كان يتمشى حازم ولمياء، قالت لمياء فى أسف:
- أنا آسفة إنى فكرتك وزعلانة جدًا على اللى حصل معاك.. مش.. مش عارفة أقولك إيه.
زم حازم فمه متفهمًا وكأنما يخبرها أنه لا داعى لقول شىء فالتعاطف لن يعيد له ما فقده، بينما استطردت لمياء:
- أفهم من كده إنك جيت هنا علشان تنسى وتهدى أعصابك.
القى حازم نظرة يائسة إلى البحر وقال:
- مش بالظبط.
جلسا على الرمال، شخَّص حازم ناظريه على البحر الواسع، يتمنى أن يجود و يظهر له جنيته التى سلبها منه، رافضًا وعيه تمامًا أن يستذكر هيئة جثتها..الأمر فظيع.
استطرد حازم بينما كانت تنصت له بقلب مُتأسٍ شفوق:
- تقدرى تقولى هربت.. هربت من بيتنا من شغلى من القاهرة كلها، مفيش مكان غير وكان لينا موقف فيه، فى بيتنا بسمع ضحكها وشقاوتها وبشوف رد فعلها لما كنت بستفزها وشكوتها لأمى منى، و فى المطار.. مكان شغلنا ياما كانت بتستنانى ونرَّوح سوا ولما أتأخر عليها تقعد تزعق وأنا أقعد أهزر.. حتى العربية ياما كانت بتركب معايا فيها وياما لينا ذكريات مع بعض فيه..
عصفت هزة من الألم بوجهه، بينما مسحت لمياء دمعة فرت من عينها، ثم أضاف شبه ضاحكًا:
- هه تعرفى كانت كل ما تشوفنى مع واحدة، معرفش إيه اللى كانت بتعمله بس أغيب لحظة وأرجع ألاقيها طفشتها، كانت بتعتبرنى ملكها لوحدها زى ما أنا كنت بشوفها بتاعتى أنا بس..أنا لوحدى، وهى فين دلوقتى...
لم يستطع إكمال حديثه فانهمرت دموع الحسرة والندم حتى أغرقت لحيته تمامًا، وبكت على إثره لمياء أيضًا محاولة التخفيف عنه لكنها لم تستطع النطق بكلمة بينما تكلم هو، ربما لأنه ولأول مرة منذ وقت الحادث يخرج أوجاع قلبه المهترىء الذى كانت سلمى هى أهم لبنة فى جداره :
- فى كل مكان بلاقى سلمى وذكرياتها..ذكرياتها "رددها بجزع ولوعة" مش قادر أصدق إنها بقت مجرد ذكرى وإنى مش هشوفها تانى أو إنى مش هسمع صوتها.. تعرفى حتى خناقاتنا وحشتنى أوى، نفسى ترجع تانى وتعمل فيا اللى هى عايزاه والله ماهعترض بس أشوفها تانى وأعتذر لها على غبائى، كنت متخيل إنى لما أهرب وآجى هنا، مش هتطاردنى الذكريات دى، وقتها كنت خلاص مش مستحمل أقعد فى المكان لحظة واحدة وأنا حاسس انها موجودة ومش موجودة فى نفس الوقت، حسيت.. حسيت إن خلاص بينى وبين الجنون شعرة، قلت لازم أبعد، ولما جيت هنا، اكتشفت إنى كنت غلطان، بشوفها فى كل مكان يا لمياء، بشوفها طالعة لى من البحر، وبرجع البيت ألاقيها مستنيانى، وأدخل اوضتى ألاقيها نايمة زى الملاك، حتى وأنا نايم، طيفها مش بيفارقنى أبدًا..
كفكفت لمياء دموعها وقالت بصوت محشرج:
- لأنها عايشة جواك.. حازم أنت كنت بتحبها ومش أى حب، أنت كنت بتعشقها، كلامى صح مش كده؟
آلمه سؤالها كثيرًا وحطَّم الباقى من قلبه، لكنه أجاب بإيماءة تحمل كل معانى الأسى أنه نعم، لو أن أحدًا سأله مثل هذا السؤال قبل ما حدث، لكانت إجابته ستكون إجابة مغايرة، لكن ما فائدة العناد الآن، فقد خسر كل شىء.. كل شىء.
حينئذ نهضت لمياء وقالت بعزم:
- من النهاردة ماينفعش تكون لوحدك، أنا هفضل معاك لحد ما تخرج من الحالة دى، أنت لو فضلت كده لوحدك...
أومأ بعينيه موافقًا بإمتنان فهو كان على شفا الجنون بالفعل، وفى أمس الحاجة ليد تشد من أزره كى يستطيع الخروج من تلك الأزمة وإن شكّ فى ذلك حد اليقين.
أردفت بنبرة أكثر بهجة فى محاول لتبديد الحزن المهيمن على الأجواء:
- أوكى النهاردة هنعدى عليك أنا و فادى الساعة 9 بالليل هنحضر بارتى هتتعمل على الشط فى شاليه سما صحبتى.. الحفلات اللى بتعملها حلوة جدا، هتنبسط أوى و..
استوقفها رنين هاتفها حتما وقع ناظريها على هوية المتصل، حكت أنفها بإصبعها وقالت بنبرة مضطربة:
- امم ده تليفون مهم.. أوكى أشوفك بالليل see ya.
- see ya
تركته وذهبت، بينما تابع سيره على البحر، رفع بصره إلى السماء محاولًا سبر أغواره، يتمنى فى ذلك الوقت لو أنه يقابل عرافة وتوشوش له الودع أو تقرأ الفنجان وبرغم أنه لا يؤمن بتلك الترهات إلا أن يأسه فى ذلك الوقت لكان يرغمه على تصديق أى شىء، أى أمل يتشبث به كغريق يتعلق بقشة، تنهد بألم اختلج صدره حتى الصميم ثم عاد أدراجه.
يتبع..
رواية لكنه لي الفصل السابع عشر والأخير بقلم ياسمين السيد قنديل
النهاية 🔥
فى المساء وعلى موعده مع لمياء، وقف ينتظرها أمام الشاليه خاصتها، ووقف معه أخوها فادى يحادثه فى كلام عام ليمررا وقت الانتظار الذى دائما ما يطول لحظاته وإن كانت قصيرة، لكن حازم فى ذلك الوقت لم يكن ذهنه حاضرًا مع فادى، فلم يسمع حرفًا مما كان يحكيه عن مجال دراسته فى هندسة الميكاترونيكس التى يدرسها بألمانيا، بينما ذكَّرته تلك اللحظة بانتظاره لسلمى فى كثير من المرات، ومرات أكثر كانت هى بانتظاره، أغمض عينيه جفلًا متألمًا وأطلق تنهيدة داخلية، ثم رسم بسمة صغيرة على ثغره مجاراة لحديث فادى وكأنه منصت لما يقوله، حتى أتت لمياء، كانت ساحرة تلك الليلة بحقٍ، ترتدى فستانًا شيفونيًا طويلًا باللون الأبيض بلا أكمام وذا حمالة كتف واحدة، مرصعًا بالتطريزات الذهبية على حمالة الكتف نزولا إلى الصدر، مفتوحًا من فوق الركبة حتى قدمها فتظهر منه ساقها البرونزية فى تناغم رائع مع لونه الأبيض، يجعلها فاتنة إلى حد يسحر الألباب ويسلب القلوب، ابتسم حازم لمجيئها فأردفت باضطراب:
- سورى يا حازم، عارفة إنى اتأخرت عليك.
لا يعرف ماذا حدث له فى تلك اللخظة فربما الصوت الذى طرق باب أذنيه كان لسلمى ولم تقتصر مخيلته على الصوت بل واستحضار الصورة فكان يخال أن الواقفة أمامه ليست سوى سلمى، وقع قلبه فى ساقيه وأجاب مقتضبًا بنبرة حالمة وكأنه مشهدًا من الماضى:
- وإيه الجديد؟
قطبت جبينها مستفهمة فهى لم يحدث وتأخرت عنه من قبل، ثم أن ذلك أول خروج لهما مع بعضهما منذ عشر سنوات. وكانت تقطيبتها كفيلة بأن يستفيق ليسترعى انتباهه الصور الحقيقية فحمحم قائلاً بتوتر يشير إلى سيارته:
- ياللا بينا!
ردت لمياء باستنكار وابتهاج:
- لا لا، إحنا هنروح مشى، شاليه سما قريب من هنا، وفرصة نتمشى فى الجو التحفة ده.
وافقها فادى وحازم ومضيا يتمشيان حتى باغتهم صوت ضجيج الموسيقى؛ فعرف حازم أنهم على مشارف الشاليه الذى يقام به الحفلة
- خلاص وصلنا.
قالتها لمياء بمرح فابتسم حازم بينما قابلتهم سما ورحبت بهم، ثم جذبت لمياء سريعًا منفردة بها، فذهب وجلس مع فادى على إحدى الطاولات، يتفقد المكان بعينيه، أضواء صاخبة متلاطمة مع أمواج البحر فى عنفوان ضارى وكأن كل منهم يريد فرض وجوده على الآخر، أصوات موسيقى غربية عالية ومزعجة وشباب وفتيات يتراقصون على الرمال الناعمة حافيين، وبار عليه المشروبات والعصائر من كل صنف ونوع وكلٍ يخدم نفسه، استأذنه فادى وذهب لمجالسة إحدى الفتيات لكنها لم تعطه مجالًا وابتعدت عنه لتحادث صديقتها فأحرجته بينما فلتت ضحكة عن فم حازم وهو يشاهده يحاول مع أخرى، نهض وجلس إلى البار وصبّ كأسًا من عصير البرتقال، تجرع منه رشفة وهو يشاهد الأجواء بعينين فارغتين من الرغبة، طرأ على ذهنه كُره سلمى لتلك الحفلات الصاخبة، كانت تراها لا تبعث على البهجة وإنما توتر الأعصاب كما أنها غالبًا ما يحدث بها شغب من قبل أحد الشباب الفاسدين والذين لا يتورعون عن مضايقة الفتيات، فكانت تفضل إذا عُرض عليها حفلة من ذلك النوع أن ترفض الدعوة بلا تردد، تجرع حازم آخر رشفة من كأسه وعزم أمره على الرحيل، وهمّ مغادرًا بعدما فشل فى محاولة إيجاده للمياء ليعتذر منها على رحيله المبكر، لكنها هى وجدته فنادت عليه:
- حازم! حازم! رايح فين؟
- أنا آسف يا سلمى..
انتبه لخطأه غير المقصود لكن ربما تستحوذ سلمى على تفكيره وكيانه بالكامل، فاضطر إلى الإعتذار مرة أخرى:
- آسف يا لمياء.. بس مش قادر أنسجم مع الأجواء.
ردت باعتراض:
- هو إحنا لسه عملنا حاجة، استنى بس شوية وصدقنى هتغير رأيك.
لكنه ثبت على موقفه:
- معلش معلش، هكون مرتاح كده أكتر.
أومأت بقلة حيلة فرمقها بابتسامة حزينة ثم غادر إلى منزله.
دلف حازم الشاليه وألقى بالمفاتيح على طاولة الأنتريه بلا اكتراث وألقى بنفسه على الأريكة ممدًا جسده، أطلق زفيرًا طويلًا كناية عن شعور بالحنق والاختناق يملأ روحه ويعصبها بغشاوة الألم تلهب فؤاده وتوسمه باسمها ليكون من الصعب عليه الرضوخ لغيرها، سُكِّرت أبصاره عن حلاوة الدنيا بما رحبت بملاذها لينكفىء إلى قوقعته حزينًا بائسًا، لم يكن أمامه ما يفعله سوى الصبر والعض على النواجذ، فمن المؤكد سيخرجه الله من تلك الأزمة بطريقة أو بأخرى، لا يعرف كيف لكنه يعرف أن تدبير الرب يفوق العقل. سافر ذهنه فى نوم قلّما يزوره بعدما أنهك فى التفكير غير المجدى.
لم يشعر حازم بنفسه سوى الساعة التاسعة صباحًا بعدما راوده شعاع متراقص من الشمس عن نفسه، نهض جالسًا على الأريكة يمرن عضلات رقبته التى آلمته جراء تلك النومة ثم انتصب واقفًا يطقطق عظام ظهره. جر قدميه المستعصيتين إلى الحمام، وقف أما المرآة ونظر إلى نفسه متأملاً حالته المزرية التى أضحى عليها، اعتزم فى قرارة نفسه أن يساعدها على الخروج من تلك الحالة؛ فالتواكل لوحده لا يكفى، لذا قرر أن يبدأ بمظهره فكثير من الناس يبدون فى أفضل حالة وهم يتآكلون فى الواقع لكن ربما عليه ممارسة التظاهر بالنسيان أو بالأحرى التناسى. تناول شيفرة الحلاقة وهم بحلاقة ذقنه وشذب شعر رأسه، بدا شاحبًا قليلًا لكنه أفضل من ذى قبل على أية حال، اغتسل وأخذ حمامًا باردًا ثم ارتدى ملابسه، وخرج إلى الصالة، فتح الثلاجة وأخرج منها بعض أنواع الجبن، وأحضر الخبز وقام بتسخينه فى الفرن الكهربائى لكنه بتمضية الوقت فى تحضير طعامه كان قد فقد شهيته فتركهم كما حضرهم وآثر الخروج إلى الشاطىء ليستنشق هواء الصباح ممتزجًا برائحة يود البحر المميزة فتهدىء من روحه الثائرة، لقد مل من اضطرام مشاعره منذ أن يفتح جفنيه فى الصباح حتى يغلقهما فى المساء، أراد أن يمضى يومٌ واحدٌ بسلام وإلا سيهلك وتهلك أمه من بعده ويصبح الألم آلام.
وصل حازم الشاطئ وقد بدأت الشمس تلقى بآشعتها عليه لتتلألأ أمواجه الهادئة متبخترة على إستحياء، وكأن هناك من أجبرها على ذلك، وقف حازم على الشاطىء يضع يديه فى جيبى سرواله، قاطبًا جبينه متأملًا زرقة البحر وسماءه، أغمض عينيه وتنهد محاولًا طرد الطاقة السلبية التى تلاحقه رغمًا عنه، حينئذ انتزعه من شروده صوت أنثوى ينطق باللغة الإيطالية وقد كان حازم يتقنها جيدًا:
- من فضلك، أيها الوسيم! هل يمكنك مرافقتى؟
التفت إلى صاحبة الصوت وكانت فتاة آية فى الجمال، ذى شعر أشقر وبشرة استمدت سمرتها من الشمس وجسد رشيق يتوسطه خصرها النحيف، على الرغم من ارتدائها لفستان شاطىء واسع ذا حمالات رفيعة إلا أنه استطاع فى نظرته الأولى ملاحظة جمالها ومع ذلك التفت لها بوجوم قائلا:
- معذرة منك، فأنا لست فى مزاج رائق.
وهمّ بالمغادرة لكنها أمسكت بذراعه قائلة بغنج:
- لماذا؟ هل تركتك صديقتك؟ أترفض دعوة سيدة جميلة مثلى؟
زم فمه فى شبه ابتسامة محاولًا ألا يكون وقحًا، وأردف وهو ينزل يدها عنه بينما انتابته قشعريرة:
- لقد أخبرتك، لستُ فى حالة مزاجية جيدة، بعد إذنك.
وأعطاها ظهره وولى مدبرًا بينما تابعت هى باهجة مصرية:
- مش مصدقة نفسى، كابتن حازم بنفسه بيقول لبنت إيطالية لأ.
تسمرَّ مكانه، ونزلت كلماتها على فؤاده كسوط أغرق فى زيت ساخن، أخذت أذنيه تردد ذلك الصوت وتلك الكلمات بصدى غلَّف عالمه، وشعر بدوار اجتاحه بشدة قبل أن يلتفت نحوها مرة أخرى ببطىء وئيد وكأن نصف جسده قد أصابه الشلل، توقفت أنفاسه وظلت عينيه ترفرف ساهمة بها، لا يصدق ما يراه بعدما خلعت نظارتها الشمسية وقبعة رأسها، تخلل جسده برودة قاتلة وتمتم بشفتين مرتجفتين:
- سلمى!
ابتسمت وعقدت ذراعيها أمام صدرها قائلة بدلال:
- إيه كنت فاكر إنك هتخلص منى بالسرعة دى.. ده بعينك.
لا يعرف كيف فى ذلك الوقت هرعت ساقيه ليقف أمامها، مشخصًا ناظريه عليها بدهشة غمرت كيانه، مسكها من ذراعيها وأخذ يهز فيها بهيستريا ودموعه تنسكب من عينيه فأدمعتها هى الأخرى جعل يهمهم بتلعثم:
- سلمى.. سلمى، أنتى أدامى بحد صح؟ أنا مش بتخيل المرة دى.. أنتى أنتى هنا بجد هاه؟
هزت رأسها الذى يمسكه بين كفيه قابضًا بخوف من معايشة شعور الفقد مرة أخرى، وفى غمضة عين ضمَّها بقوة، وزاد فى ضمها وهو يشعر بسخونة دموعها تنهال على كتفه وكانت دموعه أضعافًا تلهب جسدها، ثم ابتعد عنها مرة أخرى يحتضن وجهها بكفيه وهو يتفحصها بعينين مغرورقتين يقول من بين دموعه:
- أنتى.. أنتى كويسة صح؟ أنقذوكى ازاى؟ وكنتى فين؟ و.. و الوشك أنا شفنه فى جسمك لما...
- ششششش..
وضعت يدها على فمه محاولة تهدئته قائلة:
- هقولك كل حاجة..
هز رأسه يحثها على الاسترسال فقلبه لم يعد يحتمل الانتظار أكثر، يريد أن يشعر بالسلام والاطمئنان التام، يخال له أن كل ذلك ليس إلا وهمًا سيستفيق منه على صفعة مدوية، بينما تابعت سلمى:
- أنا ماكنتش فى الطيارة اللى وقعت أصلا.
- بس بس باباكى .. وانا كمان عرفت إن جدولك...
- أيوا المفروض دى كانت رحلتى بس أنا ماروحتش، بعد الخناقة اللى اتخانقتها معاك كنت متدمرة ومش مستحملة أشوف حد ولا أروح شغل، قررت أنى أقعد فى مكان لوحدى شوية وحجزت أوضة فى فندق فى العين السخنة بس خرجت بهدوم الشغل علشان بابا ما يشكش فى حاجة وركبت العربية ومشيت بس سبت له ورقة فى أوضتى لكنه ماشافهاش للأسف، وأنا كنت قافلة تليفونى وكل وسائل السوشيال ميديا وبعد أسبوع تقريبا بابا شاف الجواب فى أوضتى ونزل العين السخنة هو وأحمد دوروا عليا فى الأوتيلات لحد ما لقونى وعرفت اللى حصل، كانوا مفكرنى...
صمتت هنيهة شعرت فيها بالأسى، ثم تابعت:
- بس ولما نزلت مالقيتكش وكلهم ماكنوش مصدقين اللى حصل، أما الوشم فـ دى كانت زميلتى سمر كنا عاملين نفس الديزاين مع بعض.
- بس.. بس معنى كلامك إنك رجعتى بعد أسبوع، ليه محدش قاللى.
ابتعدت عنه قليلا ورمقته بنظرة خبيثة وابتسامة تعلو طرفى شفتيها ثم قالت:
- أولا لأن حضرتك قافل كل تليفوناتك وبردو السوشيال ميديا ثانيا بقا دى كانت خطة طنط إكرام.
- ماما!
- أيوا.. قالت محدش بيحس بقيمة الحاجة غير لما بتضيع منه وإنك لازم تحس إنك فقدتنى علشان تعترف بـ...
صمتت وأشرق وجهها بحمرة الخجل فأسدلت رأسها وزاغت ببصرهت بعيدًا عنه، فأمسكها بأصابعه من ذقنها برفق ورفعها لتنظر إليه، ثم قال بنبرة حالمة:
- إنى.. بحبك.
توقف ريقها كالغصة فى حلقها، وحدقت به ببلاهة وإسبهلال لا تصدق أنه أخيرًا نطقها فقالت: إيه؟!
استحالت ابتسامته العريضة إلى غضب كبير وهتف بنبرة ساخطة:
- يعنى انتوا علشان تعلمونى درس سايبنى هنا بموت كل لحظة من الندم والحزن، تمام كده خطتكوا نجحت؟
ارتعدت فرائصها و خافت من ردة فعله:
- يا حازم بس..
- بس إيه؟ قال صائحًا. هاه بس إيه؟ عندك فكرة إيه اللى أنا كنت عايشه طول الشهر ده، أكيد لأ، تمام ابقوا خلوا خططكوا تنفعكوة بقا.
تركها وغادر فأخذت تصيح باسمه لكن دون حدوى فالتفتت إلى الناحية الاخرى تزفر بغضب تفكر أنهما بالغوا فى الأمر فعلًا وأنها كانت تتوقع ردة فعل كهذه، وفجأة سمعت صوت هائم من خلفها:
- تتجوزينى؟
التفتت إليه وروحها، ترفرف من الفرح، جعلت تقفز فى مكانها فرحًا كالملسوعة فضمها صائحًا بعلو صوته:
- بحبك يا سلمى.. بحبك.
ارتفعت برأسها عن كتفه لتقابل عينيه قائلة:
- وأنا كمان بحبك..بحبك أوى يا حازم.
سمعا صوتًا أنثويا يحاول الزغردة بفشل ذريع، وشخص آخر يصفق فما كانت سوى لمياء ومعها فادى، فصدم حازم متسائلًا:
- أنتى كنتى عارفة؟
ردت لمياء كمن ينفى عن نفسه تهمة:
- أنا ماليش دعوة طنط إكرام وسلمى السبب.
ضحكت سلمى وقالت:
- لما طنط عرفت إنها نزلت مصر كلمتها وعرفت إنها نازلة الجونة فقالت لها يقعدوا معاك هى وفادى ويحاولوا يطلعوك من المود ويطمنوها عليك، وأنا طلبت منها توقعك فى الكلام وكل اللى كنت أنت بتحكيهولها عنى كنت بسمعه لأنى كنت معاها على الفون، ولما اتأكدت من إن خطة طنط إكرام نجحت جيتلك.
سحب نفسًا عميقًا وضيق عينيه بنظرة ثاقبة قائلاً:
- مش سهلة إكرام بردو.. ماشى لما أرجع لها بس.
ضحكوا بينما باغت حازم سلمى بالركض خلفها على الشاطىء متوعدًا بينما وقف فادى ولمياء يضحكان.
فى القاهرة:
كان المطرب واقفًا على باحة الرقص فى قاعة أحد الفنادق الفخمة، يلتف حوله العريس والعروس وبعض من أصحابهما، يتراقصون بفرح و حبور عمّ الأرجاء، ومحى بدواخلهم أية ذرة حزن زارتهم فى يوم من الأيام، كان الأصدقاء والأقارب يصفقون ويرقصون ويطلقون الصفير فرحين بهما من قلوبهم، وكانت إكرام تدمع عيناها فرحًا وهى ترمقهم فى منصة الزواج كما كانت تتمنى دومًا حينذاك باغتها صوت سليم من خلفها قائلاً:
- شكلهم حلو أوى مش كده؟
مسحت دموعها وابتسمت قائلة:
- أوى.. ربنا يحرسهم ويحميهم يارب.
- الله الله، طب بتعيطى ليه، هو نكد تعيطى فرح تعيطى.
- دى دموع الفرحة، ثم وبعدين معاك يا راجل أنت، أنت مالك حاشر نفسك حتى فى عياطى مش مهنينى بيه..
- هششش..شش هو ده وقت خناق..
ثم قال نبرة هادئة:
- أنا بقول يعنى، عندى استعداد نفض الخناق ده خالص و..حتى الأرنب بتاعك يا ستى هخليه ياكل من الزرع براحته لو اا..
- لو إيه؟
- يعنى إحنا لمينا شمل الواد والبت، وكده كده الباب فى الباب يعنى إيه رأيك لو نبقى أسرة واحدة و اا.. بدون لف ودوران تتجوزينى يا إكرام؟
اندفع حمرة الخجل إلى وجهها والتفتت إلى الناحية الأخرى تفرك أصابع يديها بإضطراب تدارى ابتسامتها:
- بس..يعنى أنت فاجئتى، مش كان المفروض تقوللى علشان أعرف الأولاد..هو أنا مش ليا أهل بردو.
تهللت اساريره وصاح جزلاً:
- أفهم من كده إنك موافقة!
هتف بعلو صوته:
يا حضرة المأذوووون.. استنى!
تمت..
نتمنى لكم قراءة ممتعة..
تعليقات
إرسال تعليق